حين كان العالم يستنشق بخور اليمن

حين كان العالم يستنشق بخور اليمن
1349 زيارة

المحرر

*أ.د عارف أحمد المخلافي

 

 بداية أود أن أشير إلى أنني فضلت في هذا المقال استخدام "الملك اليمني"، "اليمن"، "اليمنيون" للتذكير بوطن نسيه أهله وانغمسوا في لعق الدم، وتكريس الهدم، وتأصيل الفرقة، ويا ليت قومي يفيقون.

 

من الثابت إن أقدم الإشارات للتجارة اليمنية القديمة هي ربطها ببلاد "بونت" (التي تعد اليمن الجزء المهم فيها) من خلال النصوص المصرية القديمة خلال الألف الثالث ق.م، مروراً بالألف الثاني ق.م، والتي كانت جميعها تشير إلى استيراد البخور من (بلاد بونت – أرض الإله). وذكرت تلك النصوص قبائل رجح البروفيسور الراحل عبد العزيز صالح -يرحمه الله- أن المقصود بها القبائل القتبانية التي كانت تعمل كوسيط تجاري لتصدير البخور من بلاد بونت إلى ملوك مصر وفراعنتها.

 

 

 

لقد أقام اليمنيون من خلال ممالك سبأ وحضرموت وقتبان علاقات تجارية عبر شبكة من الطرق البرية التي تنطلق من مزارع البخور مرورًا بكل المحطات والمدن في عموم الجزيرة العربية وصولًا إلى غزة بفلسطين على البحر المتوسط، وهو الطريق الذي يرجح أن ملكة سبأ سلكته خلال زيارتها للنبي سليمان عليه السلام بفلسطين في القرن العاشر ق.م.

 

كما أقاموا من خلال مملكة سبأ علاقات تجارية واسعة مع فلسطين، والعراق القديم، وذكرت تلك العلاقات في نصوص العصر الآشوري الحديث بالنسبة للعراق، وعرفت من خلال النقوش السبئية التي عثر عليها بفلسطين في سنوات مختلفة.

 

وتفيد النقوش أن اليمنيين نجحوا من خلال مملكة معين في بناء شبكة تجارية واسعة مع شمال الجزيرة العربية، ومصر القديمة، وفينيقيا. وبلاد اليونان. ودلت ظاهرة زواجهم من تلك البلدان وغيرها على تلك العلاقات الناضجة التي اتخذت طابع استقرار جالية معينية رسمية في تلك البلدان، تدير العملية التجارية والمصالح المعينية بكل سلام ورقي حضاري.

 

 ودليل ذلك أن الجالية التي استقرت في "دادان" بالعلا بالمملكة العربية السعودية لم تدخل غازية ولم تثر شغبًا، بل استقرت بتنسيق وتحالف حضاري مع مملكة لحيان في "دادان" منذ القرن الثالث ق.م، وكانت -بحسب النقوش- تتبع مباشرة لملك معين باليمن، ودخلوا في عمل اقتصادي عنوانه المصالح المشتركة بين الشعوب، عززته المصاهرات، وحماه التعاون والأمن والسلام.

 

 كما أن التاجر المعيني "زيد إيل بن زيد" الذي ما يزال تابوته محفوظ بمتحف الحضارة المصرية بالقاهرة حتى اليوم، ومكتوب عليه اسمه وطبيعة تجارته بخط بلده "المسند"، بل تم عرضه مؤخرًا والاهتمام به ليدل على صفحة مشرقة من صفحات العلاقات الطيبة بين مصر واليمن في العصور القديمة، كما كتب عليه نصاً بالخط المصري القديم يدل محتواه على مكانته في المجتمع المصري القديم لدرجة أنه وصل حد الكهانة كونه يوّرد الى مصر سلع تجارية من ضمنها البخور الذي يحرق في معابدها، والمر الذي يستخدم في تحنيط الموتي وعلاج المرضى كما يرى العلماء.

 

ومن الشواهد الأخرى على مكانة اليمن في العالم القديم، تلك الجالية اليمنية المعينية التي استقرت في جزيرة ديلوس ببلاد اليونان لغرض إدارة تجارة المعينيين مع تلك البلاد، وما تزال آثارها هناك إلى اليوم. ويتضح من هذا النشاط المعيني أنهم لم يعتمدوا في إدارة تجارتهم مع العالم القديم على مجرد إرسال القوافل التجارية وحسب، بل تميزوا بإيفاد جالية تستقر في تلك البلدان ولها حق التفاوض والبيع، ففهموا كيف تحمى المصالح الاقتصادية وعاشوا بسلام ونشروا ثقافة التعايش مع اعتزازهم بوطنهم الذي تجسد في ارتباطهم بملكهم المعيني وخضوعهم له.

 

وأمام هذا النجاح حاول الرومان غزو "بلاد البخور" اليمن سنة 24 ق.م بقيادة حاكمهم بمصر "أيليوس جالوس" وهي الحملة التي تصدى لها اليمنيون بكل بسالة. وعلى الرغم من أنها دمرت هنا وهناك، إلا أن تلك الحملة عادت تجر أذيال الهزيمة، ولم تجد سبيلاً غير العودة لاستنشاق بخور اليمن بسلام. بل كان من أهم تبعاتها -في تقديري- أن أدرك اليمنيون أنه لا سبيل لبلد قوي وعزيز وكريم إلا بالوحدة، فنجحوا من خلال مملكة سبأ وذي ريدان في إعادة توحيد كافة ممالك اليمن القديم منذ القرن الثاني الميلادي.

وحمل الملوك الحميريون اللقب الطويل: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانة وأعرابهم طودم وتهمت (أي في المرتفعات والسهول)

 

ثم انطلق اليمنيون في القرون الميلادية من خلال مملكة سبأ وذي ريدان الموحدة "مملكة حِمْيَر" بعلاقات واسعة وصلت إلى الهند تصديرًا واستيرادًا، وتجارة وسيطة، ونافسوا في البحر الأحمر البطالمة بمصر، ومملكة أكسوم بالحبشة، بل أصبحوا سادة تجارة البحر بلا منازع. ثم عبدوا "الرحمن" و "ذي سماوي"، بل كان ملكهم أبو كرب أسعد المعروف في المصادر الإسلامية "بأسعد الكامل"، أول من كسا الكعبة المشرفة كما تجمع تلك المصادر. ما تقدم يؤكد مقولة "موسكاتي" في كتابه "الحضارات السامية " أن أهل اليمن نجحوا في فتح العالم اقتصاديًا دون الحاجة لحملات عسكرية.

 

مع خالص الأمنيات الطيبة لبلادنا الحبيبة اليمن بأن يعود أريجها طيباً في كل الدنيا، أفضل مما كان عليه في الأزمنة الغابرة. ختامًا أود الإشارة إلى أن هذا المقال هو جزء مختصر من بحث موثق وموسع سيصدر قريبًا إن شاء الله.

 

*أستاذ تاريخ الشرق والجزيرة العربية القديم

 

المصدر صفحة الكاتب

شاركها:  

اشترك في نشرتنا ليصلك كل جديد

نعتني ببياناتك ونحترم خصوصيتك. للمزيد اقرأ  سياسة الخصوصية .