قراءة في رواية ونيس – مُنية الفرجاني
علي حفظ الله محمد
أطلقت الكاتبة منية الفرجاني اسم ونيس على روايتها، وأضفت عليه معاني عدة، فجعلته راوي أخبارها وذكرياتها، وجليسها الدائم، ورفيقها في السير، ونديمها وونيسها في الخلوة، وناصحها في القول والأداء، ومجموع الأفكار التي نفثتها في سطور الرواية، ووسواسها حين تهم بفعل شيء ما، وكذلك ثمة دلالات حسية أطلقته مثلا على اللباس الذي يوضع فوق رأس العروس، وعلى القلادة الذهبية للمرأة..، وسندلل على هذه المسميات من واقع نصوص الرواية.
مثّلت الكاتبة في روايتها دور ضحية التنمر الذكوري، أو الاضطهاد النسوي في المجتمعات العربية، الناتج عن ثقافة المجتمع العربي الذي يولي الرجل مكانة أعلى من المرأة بحكم العادات والتقاليد السائدة والمتوارثة عبر العصور، فبدت الكاتبة لطيفة الجانب، كما هي في ذاتها؛ وأغلب النساء تحمل هذه الصفة، وكان طه حسين قد ألمح في كتاباته إلى هذا اللطف بصفة عامة فقال حين كان يمارس النقد النسوي أنه يتلطف في نقد النساء أكثر من نقد الأدباء الرجال حد تعبيره حين قال: “مضطر إلى أن أصطنع من الرفق والتلطف أكثر جدًا مما أصطنعه حين أقدم على نقد الأدباء”.
تكاد رواية ونيس في مجملها أن تكون ذكريات حياة؛ بل رحلة الكاتبة بين الحياة والموت، إذ دوّنت الكاتبة كل ما عانته في الحياة من أفراح وأتراح، وما أحاط أو ألمَّ بها من أسقام، حتى بلغ بها الحال إلى أن دوّنت كل ما تتوقعه بعد الممات، وهذا الخيال الواسع كان أفضل ما فيها؛ لأنها لامست الماوراء وجعلته شيئًا ملموسًا بعد أن كان محجوبًا للناس؛ كما أنها عبّرت عن الانسلاخ من الواقع، حد قولها: “أتجمّع قطرة قطرة في مصبّ عميق ثم أتسلّل في هيأة ريق نحو مُرٍّ لا مخرج له.. فيض.. هو حاجة الكلام الصّلب إلى البكاء حاجته إلى أن يتحوّل في لمح نطق إلى جملة واضحة تعيد للمعنى صموده أمام فكرةٍ تلاشت..، وما يؤكد ذلك ومضة أوغسطين التي استهلت بها أحد الفصول: «الأموات غير مرئيين؛ لكنّهم ليسوا غائبين «، ثم قالت: لا أحد يلحظ وجودي، رغم أنّني كنت حقيقيّة جدًا، أشعر بحرارة جسمي تتدفّق من بين كتفيّ مرورًا برقبتي وجبهتي، سمعتُ دقّات قلبي وأنا أضع يديّ على أذنيّ، تنفّستُ بعمق، سحبتُ هواء ثقيلا بأنفي، شهقت وزفرت، تثاءبت..، لم يلتفت أحد إليّ، فهمت أنّني لست سوى هواء في ذلك المطبخ..، لمحت قنينة ماء بلاستيكيّة، كُتِبَ عليها بخطٍّ أحمر كلمة «حياة» أستطيع القراءة إذن..، بإمكاني أن أقرأ بسهولة ما يقع عليه بصري، رحتُ أجول بعينيّ في أرجاء المكان الصغير..، قرأتُ العبارة لتخفيف الحرارة والآلام أستطيع أن أقرأ ذلك بسهولة، حاولت أن أمسك بالعلبة وأقرأ ما كتب بالخطّ الصّغير لكنّني لم أتمكنّ من لمسها، كلّ الأشياء حولي موجودة لكنها غير قابلة للّمس، لم أستوعب بعدُ كيف لوْنيس أن يكون معي في هذه اللّحظة بالذّات بعد أن توهّت أنّني فقدته إلى الأبد يوم مت. ثم قالت: “أنا على علاقة بهذا الوْنيس الصّوت منذ عشرين سنة، منذ أن كان صوتي أميّا، هو من علّمني تهجئة الظّلام حرفا حرفا.. للظّلام أبجديّته أيضا..”؛ فجعلت علاقتها بالرواية مذ ولادتها وقبل أن تتعلم حرفًا عربيًا واحدًا، بل جعلت هذه الرواية هي من علّمتها كيف تتهجّى الحروف العربية حرفًا حرفًا..”؛ والواقع أنها هي من خطّت حروفها حرفا حرفا.
أما الدلالات التي أضفتها على اسم الرواية ونيس فقد جعلته حينًا راوي أخبارها وحامل لواء أسرارها، وبإمكان القارئ أن يدرك ذلك من واقع نصوص الرواية في بعض المواضع حين قالت على لسان زوجها: “إنّه مفتاح مذكّراتها، صمتَ قليلا وأضاف «كتابها»، كانت لأمّك مذكرة خاصّة رافقتها منذ صباها هكذا أخبرتني قبل زواجنا، قالت لي إنها أقدم رفيقاتها وأثمن نفائسها، لطالما كانت تلك المذكّرة عدوّتي، لقد كانت تقضي معها وقتًا أطول مما تقضيه معي”، وفي موضع آخر قالت: “لنا كلُّ العمر..، ولنا كلُّ الموت يا ونيسي العزيز، أتذْكُرُ كلَّ هذا يا ونيس؟ لا يجيب..! أسمعه يتنهّد بصوتي”، وقولها في موضع آخر عن دلالة الراوي: “هل ستخبرهم يا ونيس أنّني تزوجته عن حبّ وعلى حبّ وفي حبّ وبحبّ ولحبّ وكحبّ؟”، نلحظ هنا كيف سجّلت في الرواية كل ما جرى في حياتها؛ بل جعلتها واسمها ونيسًا كرفيق صغير يتبعها في أي اتجاه اتجهت؛ جعلتها ونيسًا كطفل يسير معها حيث سارت ويبيت معها حيث باتت ويصبح حيث أصبحت..، وهكذا في كل أمور الحياة ونيس لا يفارقها يطّقس عليها في كل الأمور ويسجل كل الذكريات، وكل الأقوال الجارحة التي تخدش حياء الحياة، وعشق الفنون والرسوم.
كما أضفت في بعض المواضع دلالة أخرى على اسم الرواية ونيس فجعلته لباسًا يوضع فوق الرأس فعبّرت عنه بقولها: “كل مراسيم العرس من عادات وتقاليد تجري في الأرياف، وما تعمله الأمهات من طقوس ورثنه عن أمهاتهن وجداتهن الأُوَلِ…، وهو تحفة نادرة ورثتها أمي عن جدّتها، هذه كنوزنا الصغيرة يا ابنتي.. الوْنيس هو آخر ما يُلبس فوق رأس العروس الجربيّة، يوضع فوق غطاء الرّأس ويثبّت نصفه المتدل على الأذن قبل صعودها على الصّندوق الخشبي لتتجلّى، حيث ستعرض جمالها لأوّل مرة أمام الحاضرات..”
وثمة دلالة أخرى أضفتها على اسم الرواية ونيس فجعلتها اسما لقطعة ذهبية؛ في تعبيرها عند شراء هدية جدتها: “طلبتُ من البائع أن يمدّني بقطعة ونيس إن كان يملك نموذجًا قديمًا منها، غاب عني للحظات ثم عاد وفي يده دائرتان ذهبيّتان مطعّمتان بحبّات اللّؤلؤ، فيهما زخارف من طلاء أحمر، أزرق وأخضر؛ قال وهو يمرّر قطعة قماش برتقاليّة على الفضّة يدعكها بأصابعه ويوجّهها نحو مصدر ضوء أصفر قويّ منبعث من سقف المحلّ الصّغير: هذا هو الونيس يا مدام، إنّه من القِطع النّادرة فعلا؛ وكلُّ الذّي ترينه في محلاّت وواجهات بيع الذّهب هي قِطعٌ باعها أصحابها وليست مصوغًا حديث الصّنع، الونيس نادرٌ وهو متوارث بين الأجيال؛ اشتريني يا غرام !أجبتُ متجاهلة كلّ الأصوات التي بدأت تلمع حولي: أُريدُه؛ صار وْنيس أخيرًا معي”، وكذلك جعلته بُرجًا أثريًا يقف شامخًا على ضفاف البحر حد قولها: “مررت ببرج الغازي مصطفى ومسرح الهواء الطّلق كان مشيّدًا على شكل هلال ضخم على ضفاف البحر، كان هو الآخر يأخذ شكل ونيس عملاق تخيّلت نفسي أحلّق بطائرة فوقه”
وكذلك أطلقته على مجموع أفكارها في الرواية لسبع سنوات متعاقبة للتعبير عن جوهر هذا العالم الكئيب حد قولها: “يبدأ الفيلم بيدي المرتعشة وهي تسحب سيجارة من فمي المغلق الكئيب، العالم يغرق في دخان ثائر يغطّي شاشة السّينما العملاقة”، صوّرت الروائية العالم في هيئة إنسان يغرق وسط دخان متطاير في الهواء حتى إنه غطّى الشاشة العامة العملاقة لحياة البشرية جمعاء، والأَمَرُّ في هذا الشأن أن الكاتبة لا تُدخّن الدخانَ المتطاير؛ وإنما تشرب ما يشبهه من مُرٍّ فتنفثه أفكارًا كما فعلت في سطور ونيس، ثم صرّحت أنها دخّنت سبعة أعوام هو عمر هذه الرواية من نفث أفكار الحياة فيها، ثم حاولت أن ترثي نفسها قبل موتها؛ فأوجدت خيالا لا يكاد يتجزأ عن الواقع فقالت: “من سيكون له شرف الحصول على هذه الأوراق بعد موتي، لقد تركت المرحومة هذه الأوراق في مكان ما”؛ وجعلته أيضًا رفيقها في الخلوة في طقوس الكتابة حد قولها: “كيف كنتُ أنسحب نحو غرفتي ليلا والجميع أمام شاشة التلفاز سهرة السّبت، أنسلّ من بينهم بدعوى أنّني بحاجة إلى الرّاحة، أو مطالعة كتاب، أطير إلى وحدتي، إليك يا وْنيس، أجلب الكرسيّ ذاته إلى المكان ذاته، الزّاوية ذاتها، أقرّبه إلى سريري، أطفئ النّور وأستحضِرُك…فتأتي.. أراك دون ملامح، دون وجه، دون خطوط، دون هيكل، أراك بقعة ضوئية غائمة، مشعّة بقتامتها..”، جعلت هذه الطقوس أشبه بساحر يخلو إلى خدمه الطيعين يمارس جمعهم لتنفذ أمرًا ما، يتضح ذلك من قولها: أستحرضك فتأتي، وأراك دون ملامح، دون وجه، دون خطوط، دون هيكل، أراك بقعة ضوئية غائمة..
أما نص الرواية بشكل عام فقد امتزجت فيه كل الذكريات والعادات والتقاليد القديمة ومنها عادات الأعراس التي تحدثت الكاتبة عن طقوسها وما يصاحبها من عادات وتقاليد موروثة تشي بنوع من اعتقاد الآباء والأمهات والجدات بأمور يُخيلُ إليهم أنها تحفظ العروس من الأرواح الشريرة تستشف ذلك من واقع أفعالهم: “تبحث الأمّ عن طين قديم يرقد في أحد البيوت المنسيّة، الخربة المهجورة المتآكلة، التي يعود بناؤها إلى مئات السنين، تعود بكيس طوب فتدقّه في مهراس ثم تغربله بغربال الشَّعر للحصول على غبار الطّين الدقيق بعد ذلك تضيف إليه ماء المطر والزهر وحين يتحوّل إلى عجينة متماسكة حريرية تدهن بها العروس جسدها كاملا في مراسم تسبق العرس بأيام، تسمى هذه مراسم؛ لأنّ العروس تحجب جمالها عن كل المحيطين بها بما فيهم والدها وإخوتها، قبل العرس بشهر وفي موعد حدّدته أمّي، كان فيه القمر مكتملا تجمّعت الصبايا في بيتنا، بنات خالة وصاحبات وعمّات وخالات أتين متأنّقات، ارتدين أجمل ما عندهنّ استعدادا للخروج إلى الزيارة؛ زيارة الأولياء الصّالحين الذين يرقدون في زوايا المساجد والمقامات، تحت قباب من الاسمنت المطليّ باللون الأخضر المهيب ورائحة الشموع الخانقة؛ في قفّة من سعف النّخيل وضعت أمّي قارورة ماء بعض الشموع وصحنًا فخّاريًا صغيرًا فيه «البثبيثة» طعام الأولياء الصّالحين وشهداء القبّة الذين سنزورهم ونؤنس وحدتهم بالشموع والغناء…، «مبارك ها العرس الليلة يدوم فرحة وزهوات، ألي جاتا من كل قبيلة حتى الحفالاتا»، تردّ البنات بأعلى أصواتهنّ على مطلع الأغنية في جوّ من التّصفيق والفرح الخرافيّ”
وفي مقابل ذلك امتزج نص الرواية بألفاظ معاصرة؛ وهو ما يميزها أن جعلت نصوصها ممزوجة بين الألفاظ والعادات القديمة والمعاصرة فأتت في هيئة مخضرمة؛ وما يثبت انتماءها إلى العصر المعاصر هي ألفاظ التكنولوجيا التي أوردتها؛ وما تحققه من متعة للفرد في الحياة حد تعبيرها عن والدها: “قال إنّه يريد أن يرتاح في البيت وأن يتابع قناة ناشيونال جيوغرافيك، يريد أن يتفرّغ تماما إلى وحدته… أعرف أبي…، دعيه يستمتع بوقته ثم بإمكاننا الاطمئنان عليه كلّ لحظة بالهاتف أو السّكايب لن يفوتنا شيء”، كما استعملت الكاتبة ألفاظًا أخرى معاصرة في مواضع متعددة مثل التلفون، اليوتيوب، بحث في غوغل، موقع صحة ويب، الفديوهات، سيديهات، تكنولوجيا، الواتساب، الزوم، والماسنجر، والعلاج الكيمياوي، مكبرات الصوت، الماكياج، الماسكارات، وغيرها من الألفاظ التي تنتمي إلى عصر التكنولوجيا والثورة المعرفية المعاصرة، ومارست طقوسًا معاصرة في مقابل تلك القديمة، وهو ما يجري للعروسين من رحلات ونزل في هوتيلات قصد التمتع بأجواء عرائسية فاخرة تكون ذكرى حياة في يوم ما؛ حد تعبيرها: “..ألست شريكتك أريد أن أشاركك كلّ شيء، وهذا المبلغ مسامة مني في هذه الرّحلة أريدها أن تطول عشرة أيام في نزل خمس نجوم… وأنا النّجمة السّادسة”.
ثم إن ما يمكن الإشارة إليه هو سيطرة خيال الرسم والنحت -تخصص الكاتبة- على النص، إذ لم تغفله في ثنايا الفصول حتى بدا الرسم والفن واضحًا في النصوص يلحظه القارئ ببساطة في سطور الرواية حين قالت: “كلّ نحّات بالضرورة رسّام بارع؛ ولكن ليس بالضرورة أن يكون الرسّام نحّاتا، هذه أوّل معلومة مذهلة وصلتنا منه، جعلني أستنتج في ثوانٍ أنّني أمام نحّاتٍ بارعٍ!”، ويبدو كذلك أن فن الرسم والنحت قد طغى على شخصيتها حتى ظهر جليًا في تعابيرها وفي مواضع متفرقة منها؛ وبخاصة عند مقابلة إساءة زوجها: “أردت أن أرسم على جلده بأظافري، ماذا أرسم؟ ماذا أكتب؟ أظنّ أنّ الحَفرَ أبلغُ بكثير..، ليتني أستطيع أن أحفر بأنيابي على كتفيه، كي أحمّله ثقل ما نابني منه من عذابات، أن أزرع في كلّ مسام من مساماته بذور القهر التي نثرها في روحي ولم تنبت؛ لأنّ روحي كانت ميّتة؛ ها هي تستفيق الآن..”؛
أما أهم الظواهر التي سلّطت الكاتبة الضوء عليها في الرواية فهي ظاهرة ما يسمى «بالتنمر الذكوري على النساء»؛ أو الاضطهاد النسوي بشكل عام؛ وهي ظاهرة أصابت المجتمع العربي حتى أصبحت ثقافة من ثقافاته؛ فالأوامر الذكورية؛ أو تسلط الرجل على المرأة وما تعانيه النساء من الأوامر التي تصدر من الأقران تجاه زوجاتهم في الممارسة الحياتية الطبيعية ليست وليدة اللحظة؛ وإنما تناسلت من العصور القديمة إن لم تكن ملازمة للمرأة في كل عصر؛ وقد عبّرت عن ذلك التسلط بقولها: “توقّفت « امرأة على اثنتين يقع تعنيفها في تونس «، هناك.. هناك تماما إذن، امرأة على اثنتين تتعرّض للعنف في تونس! هذا ما قرأته على إحدى اللاّفتات المكتوبة وأنا أتجوّل في شوارع العاصمة..؛ النّسبة كانت مرعبة، تصوّرت أنّ نصف النساء التونسيات يتعرّضن يوميًا للعنف، تذكّرت المقولة الشهيرة لأولاد حمد “نساء بلادي نساء ونصف” فعلا، هذا ما توحي إليه اللافتة تحديدًا؛ أي هنالك نساء؛ وهنالك نساء ونصف!! النّساء دون نصف هنّ من يتعرّضن للعنف أكيد”.
وثمة نصوص أخرى عبّرت بها الكاتبة عن واقع التعنيف أو التنمر، ومثّلت فيها دور الضحية منها: “كلُّ الأفعال التي تخرج من فيه تأخذ صيغة الأمر، أشعر أحيانًا أنّه يعيش بيننا فقط كي يصدر الأوامر، يأكل وينام، لا يعرف أبدًا أنّ عبارات: (لو سمحت، من فضلك، عزيزتي)، خلقتها اللّغة كي تخفّف من حدّة الأمر؛ ومن أجل أن ترطّب رأس السّهم وهو في طريقه إلى القتل”؛ نلحظ هنا كيف صوّرت الكاتبة معاناة النساء ضد التسلط الذكور في ممارسة الحياة، بل جعلت كل كلام يخرج من فيه أمرًا يستوجب التنفيذ، حتى الدعابة والمزاح البسيط احتسبتها صيغة أمرية قهرية لا تتخذ سبل الملاطفة مثل كلمات: “لو سمحت، من فضلك، عزيزتي”، ومع كل هذه العبارات اللطيفة حتى لو تمثَّل بها الرجل فإن الكاتبة ما جعلتها إلا سبيلا للقتل بلطفٍ كمن يحد شفرته ليرح ذبيحته. وفي مقابل ذلك ثمة ردة فعل عنيفة من النساء تجاه الرجال، ولكن الكاتبة تجاهلتها ولم تسلط ضوءًا عليها تتمثل في قولها: “أمّا ما كنت أريد أن أقوله له فهو أخطّط لقتلك! آش ناقصك؟ يقولها بلهجة عاميّة جافّة، أكاد أقول ينقصني الاهتمام، ولكن كنت أعرف أنّه لا يباع مع الطّحين والقهوة وأكياس السكّر والملح، أجيبه فقط: لا ينقصني شيء، وهي في الواقع ترجمة منمّقة عن » ما حاجْتي بشيْ «لا تطول المكالمة أبدًا بيننا هو فقط يسأل ليعرف أين أنا وماذا أفعل، وإن كنّا نحتاج إلى خبز للعشاء، تنتهي المكالمة سريعًا، أقفل الخط وأفتح فم الشّيطان فيّ: ماذا أسمّي رجلا يتّصل بزوجته ليسألها ماذا تفعلين؟ كم تمنّيت لو سألني يوما ماذا ترتدين ماذا تضعين على صدرك من حليّ، ماذا أعددت لي من ألوان العشاء.. لا أذكر أنّه اهتمّ بشيء من هذا القبيل، لا تحرّكه الشموع ولا القناديل، لا يعترف بما تهبه الطّبيعة من فرص للاستمتاع بأضوائها ومصابيحها الطبيعيّة الرّقيقة، لا القمر يحرّكه ولا المذنّبات، لطالما اعتبر أنّ الليل فرصة عابرة لقذف حصاة في بحيرة مظلمة، محلاّت بيع الشّموع بالنّسبة إليه ترف لا تستحقّه البيوت العربيّة، حتّى إذا انقطع الكهرباء، لم يهمّه أن يخدشني عدم اهتمامه قد أكون في نظره مجرّد آلة ركوب محليّة عاديّة بعجلتين بسيطتين”.
يلحظ القارئ كمية نفور النساء من الرجل الذي لا يعير زوجته أو حبيبته اهتمامًا كبيرًا؛ وفي المقابل يستمتعن بالإطراء بشغفٍ عالٍ في مقامات الحياة بشكل عام حد تعبيرها عند لومها لزوجها لعدم مخاطبتها بلفظة “حبيبتي” عل شط الاصطياف: “قال إنّ العبارة حتّى وإن قالها ستكون محرجة بالنّسبة إليه فلا المقام ولا المقال كانا يسمحان بأنّ يناديني بتلك العبارة الإثم “حبيبتي” حدّ تفكيره، كنت مستاءة جدًا من نسبة العطب التي وصل إليها، صرتُ متأكّدةً تمامًا أنّني مع كائن خُلِقَ فقط ليستهلك أكسيجين الأرض، خُلِقَ ليخنقني..؛ الصّمت كان أبلغ تعبير على أنّني موجوعة”.
ثم أوضحت الأمر الذي يجعل كل النساء تصبر على عدم الاهتمام أو اللامبالاة من الرجل تجاههن وما يجعلهن يتغافلن عن كل منغصات الحياة حد قولها: “يجب أن أتماسك من أجل هذه البنت التي أنجبتها، يجب أن أتغافل عن كلّ هذه الحُفر التي تملأ المكان، وهذه الشلالات المالحة التي تعبر خطواتي كلّما هزّني المشي نحو الغد”، ومع كل هذا الصبر والتغافل من النساء إلا أنهن لا ينسين أي خدش في حياتهن أبدًا مهما كانت الظروف؛ بل أحيانًا يصل بهن الحال إلى درجة إنكار فضل الزوج وعشرته ورغد العيش معه، وقد تطرقت الكاتبة إلى ذلك بقولها: “كلّنا عبوات تحمل تواريخ صلاحية تطبعها الكدمات؛ كجامعة طوابع بريديّة نادرة وجدت نفسي أجمع ما طبعه في ذاكرتي من حُفَر وأوجاع، أكتب في دفترٍ مخبأ تحت مرتبتي ما عَلِقَ في ذاكرتي من أحداث ومواقف، كنت أفكّر أن أجمعها يومًا في كتاب أنيق أسمّيه «لسان الغراب»، أجمع فيه القواعد الأساسيّة لهدم إنسان، وما يمكن أن يصنعه لسان لا يتقن الحديث، فيه أبجديات الموت البطيء في تقليد متطوّر جدًا لكتاب لسان العرب الذّي غابت بَعده أحاسيسنا ومعانينا”.
وما هذا الإنكار إلا طبع جُبلت عليه المرأة؛ له واقعٌ أصولي أشار إليه حديث النبيﷺ في قوله: “وتكفرن العشير”، وكذلك واقعة قول ابن عبّاد لزوجته اعتماد الرميكية حين قالت له: ما رأيت منك خيرًا قط، فذكّرها بيوم الطين «ولا يوم الطين»، وهو يوم مشهود؛ إذ جعلها ترفل في الطين المعجون بالمسك والعنبر، وكل ألوان العطور والرياحين والفل والياسمين، وهذه ظاهرة لم تعرّج عليها الكاتبة في مقابل الظواهر التي ذكرتها عن تسلط الرجل، ثم إنها جعلت المرأة لا تكاد تنسى أو تسامح زوجها مدى الحياة عمّا يقوله أو يفعله من تنمر وتسلط ذكوري تجاه المرأة فقالت: “بعدها بيومين تخاصمنا، فنعتني بالبقرة، لم أحتمل شتيمته وقرّرت ألّا أكلمه أبدًا..تخيّل! أتخيّل الآن سبب تراكم الغيوم السّوداء الأخيرة التي أخفيتها عن ابنتك نعتني بالبقرة! كنّا وحدنا في البيت، قذف في وجهي تلك العبارة وواصل أكل ما سكبتهُ له البقرة؛ عندما غادرت المطبخ وسرت باتجاه غرفتي شعرت بأنّ ذيلًا طويلًا نبت أسفل ظهري، حتى إنّ خطواتي بدت ثقيلة رتيبة، كأنّ روثًا رطبًا التصق بحذائي، وحوّل المكان إلى زريبة وخوار..؛ بكيت يومها كما لم أبكِ يوما..، بقرة تبكي!”.
نلحظ هنا أن المرأة الضحية تحسّست من لفظة البقرة ولم تدرِ أنه جعلها إلهًا هنديًا، أو فرعونيًا، ولكنها لم تؤمن بهذا الإطراء المبطّن، أو ما يُسمَّى بالتضمين؛ أو بمعتقد الإله البقرة، فقالت لوسواسها ونيس: “أرجوك يا ونيس يكفي، أنت تحاول تهدئتي ليس أكثر..”، وفي مقابل هذا التصرف من الرجال كانت تُعد جوابًا له عبّرت عنه بقولها: “كان بالإمكان أن أقول هنا لستَ رجلًا؛ ولكنها ليست الترجمة الصحيحة لعبارة «ماكش راجل»، شيء ما في اللّهجة العاميّة يجعل العبارة مفخّخة، ربما حرف الشين هنا في عبارة ماكش، وتلك النقاط الثلاث المتراصّة فوق بعضها هي التي حوّلت الكلمة إلى بندقيّة صيد بثلاث فوّهات ناريّة، تقتل رجولة الرّجل وتحوّله إلى طريدة..”؛ نجد في تحليل الكاتبة لفتة جيدة إلى ما تحمله أحيانًا بعض الألفاظ العامية من دلالات تُفحِمُ أو تصل إلى قرارة نفس المخاطب لا يمكن أن تقوم مقامها أية لفظة أخرى نظرًا لما يؤمن به المجتمع من ثقافة ودلالة راسخة اعتاد عليها في إيصال تلك الدلالة الخاصة.
وفي مقابل ظاهرة التنمر الذكوري عرضت الكاتبة نماذج للتنمر الأنثوي تجاه الرجال من طرف من أسمتها بـ”المرأة ونصف”، عبّرت عنها بقولها: “تراءت لي شرطيّة مُرور كانت فاتنة، بيضاء كجبنة، هيفاء، فارعة الطول، تضع نظارات شمسية أنيقة، أحمر شفاه فاقع الحمرة وظلال خدود مشمشي أعطى لوجهها نضارة الفاكهة الطازجة، هذه أيضًا من النّساء ونصف أكيد!! من يتجرّأ على ضرب شرطيّة حتّى وإن كان زوجها! إن عنّفها سترديه، سترفع الورقة الحمراء في وجهه البائس، ستصمّ أذنه بصفّارتها العالية، ستسحب منه رخصة سياقة حياتها، سيترجّل الحياة إلى يوم يموت، رأيتها أجمل ممّا يمكن أن تلتقطه كاميرا الفخر، أحببتها لأنها امرأة تمثّل نساء الوطن، الوطن المرأة، والمرأة الوطن.
إقرأ للكاتب أيضاً قراءة في رواية الدجال- شوقي الصليعي