تعز والضمير المقاوم قراءة في وعي اليمن التاريخي

Published:
المشاهدات:
2907
تعز والضمير المقاوم قراءة في وعي اليمن التاريخي

    ليست المقاومة في اليمن طارئة أو طائشة كالرصاصة، بل قديمة كالنقوش على الصخور. هي ذلك الصوت الداخلي للشعب الذي يصحو حين تغفو الدولة، وتشتد قبضته حين ترتخي قبضتها، ويتقدّم خطوة حين تتأخر خطوتها. وهي — قبل كل شيء — وعيٌ جمعيّ لا يموت، لأنه يتغذّى من الشعور بالكرامة، ومن الحنين العميق إلى دولةٍ لا تَخذل، وإلى وطنٍ لا يُباع.

في اليمن، لم تكن المقاومة خيارًا للثائر فقط، بل قدرًا للمواطن الواعي، وسيرةً ثقافية تُورَّث كما تُورَّث الأرض واللغة. ومن لا يدرك ذلك، لن يفهم تعز، ولا مأرب، ولا ردفان، ولا اليمن حين يصحو.

منذ فجر التاريخ، لم تكن الجغرافيا اليمنية مجرّد مسرح للزراعة والتجارة، بل كانت بيئةً تُنتج السلطة وتُقاوم انحرافها في الوقت ذاته. ففي هذا البلد الجبلي شديد التقلّب مناخًا وطبيعة، تَشكّل الوعي السياسي والاجتماعي حول مفهوم "الإدارة لا الامتلاك"، و"السلطة لا السيادة المطلقة". فالدولة اليمنية لم تنشأ على منطق القوة الغاشمة، بل على معادلة دقيقة بين الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، والمركز والأطراف، ولذلك بالعودة إلى اللقب الملكي في العهدين السبئي والحميري سنجد الفيديرالية اليمنية سابقة في التاريخ: مملكة تضم ممالك تعترف بها وتنظمها في إطار موحد ولقب ملكي مهيب.

ولأن البقاء في اليمن كان مرهونًا دومًا بالسيطرة على عنصري الماء والطريق— أي الزراعة والتجارة — فقد نشأت أنظمة الحكم الأولى كاستجابة لحاجات المجتمع لا تسلّطًا عليه، ونشأ معها — بالمقابل — نوعٌ من المقاومة البنّاءة التي تحرس هذا التوازن متى اختلّ.

فمن سد مأرب إلى طرق البخور، ومن نقش الملك كرب إل وتر إلى كتابات المسند، ومن الدولة السبئية إلى الدولة الرسولية، لم تكن المقاومة فعلًا غريبًا على الذهنية اليمنية، بل كانت دومًا الحدّ الثاني للسلطة، والتصحيح الطبيعي لمسارها، والوعي الباطني الذي يحرس الدولة من الداخل والخارج.

 

يذهب البعض إلى أن المقاومة مجرّد "ردّ فعل"، وهذا — في تقديري — تصوّر شائع وخاطئ. لماذا؟ لأن هذا الفهم يتجاهل الواقع، ويتجاوز الإرث الثقافي والحضاري للشعوب، ويغفل تعقيدات التاريخ وتحولات الوعي. إنه ينزع عن المقاومة إرادتها، ويجعلها مجرّد انعكاس لفعل خارجي، كأن الإنسان لا يتحرك إلا عند الخطر، ولا يملك القدرة على التوقّع، أو المبادرة، أو بناء استراتيجية وعي قبل أن تقع الكارثة.

 

هذا التصور يحصر المقاومة في لحظة الحدث فقط، بينما الحقيقة أن المقاومة — في جوهرهامشروعٌ طويل المدى، ممتدٌ ومتجذّر في عمق الوعي الجمعي. هو تصوّر بدائي، يُسقط عن المقاومة بعدها الأخلاقي والفلسفي، ويحولها إلى حركة انفعالية، بلا وعي، بلا منظومة قيم، بلا أهداف، وبلا قدرة على استباق الزمن.

 

عند الحديث عن المقاومة كفكرةٍ في مجتمعٍ حيّ وواعٍ، يمكننا القول إنها ليست مجرّد ردّ فعل، بل نتاجٌ لإرادة مشتركة بين الفرد والجماعة. إنها تتجسّد قولًا وفعلًا في مواجهة الأخطار، والكوارث، والقهر، ومحاولات الهيمنة، وممارسة الظلم، وذلك بهدف حماية انسجام المجتمع وسكينته، وصون وحدته الموضوعية، وسلطته السياسية، ودولته.

 

المقاومة هنا ليست مجرد صراع سياسي، بل دفاع عن الكرامة، واستعادة للحرية، واستبقاء للمعنى الحيّ في قلب شعبٍ مهدَّد بالعبث، أو الطغيان، أو حماقة الأيديولوجيات المتعصبة. إنها وعيٌ بالحياة قبل أن تكون عراكًا مع الموت، واستثمارٌ في المستقبل، لا ارتكاس في لحظة انفعال.

 

في تصوّري، لم تكن المقاومة في اليمن يومًا فعلاً طارئًا، ولا ردّ فعلٍ غاضبًا على استبدادٍ عابر أو غزوٍ مفاجئ. بل كانت ـ منذ البدايات ـ حالة وعيٍ حذِر، ترافق نشوء الدولة لا تناقضها، وتكملها لا تنافسها. ليست سلطة بديلة، ولا معارضة صاخبة، بل كيانٌ جمعيّ غير مرئي، يحرس الدولة من الخارج حين تتعثر من الداخل، ويتقدّم حين تتراجع، ويتوارى حين تستقيم. إنها ضمير الجماعة حين تغيب السلطة عن دورها، وملحُ العقل اليمني حين يبهت طعم السياسة.

 

وأذهب بعيدًا في تصوّري، لأقول إن المقاومة اليمنية ليست حركة سياسية ظرفية، بل وعيٌ متجذّر في عمق الثقافة اليمنية، ورافدٌ أصيل من روافد الهوية، ظهر منذ اللحظة التي وُضعت فيها أولى لبنات الدولة اليمنية قبل أربعة آلاف سنة.

 

هناك، في ظلال السدود، وعلى رفوف المدرجات الجبلية، وعلى ضفاف مواسم المطر، وعلى طول طرق القوافل... نشأت الحاجة إلى من يسدّ الثغرة حين تغفل السلطة، ويحمي مورد العيش حين يتباطأ النظام، ويعيد ترتيب الأولويات حين تختل موازين الدولة. إنها مقاومة الفطرة والوعي، لا مقاومة الشعار والسلاح فقط. مقاومة نشأت من الحاجة إلى البقاء، وتطوّرت لتصبح فنًّا لصيانة الدولة لا لهدمها، وحفظًا للمجتمع لا لتفكيكه.

 

نشأت الدولة اليمنية على مسارين بالغَي الحساسية: الزراعة والتجارة.

ففي بلدٍ بلا أنهار دائمة، كانت الزراعة ممكنة فقط عبر إدارة دقيقة للمطر الموسمي، ما استلزم إنشاء سدودٍ متقنة، وتقنيات معقدة للري، وفهمًا متقدمًا للهندسة الزراعية، جعل من الزراعة فعل بقاء، لا مجرد نشاطٍ اقتصادي.

 

وفي المسار الآخر، قامت التجارة على طريق البخور، ذاك الطريق الذي ربط الشرق بالغرب، ولم يكن مجرد ممرٍ للبضائع، بل منظومة اقتصادية وثقافية وأمنية، بُنيت على وعي جغرافي دقيق وفهم عميق لمكانة اليمن في خارطة العالم القديم.

 

هاتان القاعدتان — الزراعة والتجارة لم تمنحا الاستقرار هبةً، بل فرضتا على اليمنيّ أن يكون دائم الحذر، دائم التنظيم، دائم اليقظة. في كل موسم خطر: جفاف، تهدّم السدود، أو نهب القوافلوهنا تظهر المقاومة، لا بوصفها تمرّدًا، بل حالة من الوعي الدفاعي، يقظة عقلية واجتماعية للحفاظ على البقاء والتوازن.

 

ومن هنا، أتصور أن المقاومة اليمنية لم تكن يومًا لحظة انفعالٍ غاضبة، بل هي بناءٌ معرفي، وتراكمٌ ثقافي، وتجلٍّ حضاري هدفه الأول: الحفاظ على الدولة، وحمايتها من الانهيار. فهي ليست صراعًا على السلطة، بل وعيٌ متقدّم يسعى لصون "معنى الحُكم" لا كرسي الحاكم بذاته.
مقاومة بلا "أنا"، بلا زعيمٍ أو حزبٍ مؤدلج، بلا جوقة تابعة، بل مقاومةٌ تتكرر كالخلاص، وتتهامس بها الأجيال حين تضيق الدنيا.
مقاومة حاضرة كالمطر، كالنُبوءة، كيقظة الروح.

 

لهذا، فإن الحديث عن المقاومة في اليمن لا يجب أن يُختزل في بندٍ سياسي، أو يُحبس في خندقٍ عسكري. بل ينبغي قراءتها كـفلسفة أصيلة في الاجتماع اليمني، وكقيمة تتجاوز اللحظة التاريخية لتسكن في جوهر الإنسان. فلا خلاص بلا مقاومة، ولا دولة بلا حارس.

 

لن نغوص بعيدًا في بطون التاريخ، لكن يكفينا هذا المثال الجليّ:
في تعز، عاصمة الدولة الرسولية، نشأت واحدة من أرقى التجارب اليمنية في بناء الدولة المركزية بعد الإسلام. فالدولة الرسولية (626هـ – 858هـ / 1229م – 1454م) لم تكن مجرد حكمٍ سياسي، بل تحوّلت إلى مشروع حضاريّ ارتبط بالثقافة والاستقرار والإنتاج.

لقد مثّلت هذه الدولة ذروة النضج السياسي اليمني في العصر الوسيط، حيث بدأت كولاية تحكم باسم الخلافة العباسية، ثم تطوّرت إلى سلطنة ذات سيادة، وسعت نفوذها ليشمل معظم الجزيرة العربية.

وفي زمنٍ كانت فيه الخلافة الإسلامية تتآكل تحت وقع الانقسامات والصراعات، استطاعت الدولة الرسولية أن:

  • تُخمد النزاعات الطائفية والقبلية،
  • وتؤسس توازنًا سياسيًا نادرًا في محيطٍ مضطرب،
  • وتخلق حالة استقرار ثقافي واقتصادي استمرت قرابة قرنين ونصف،
  • وتعيد اليمن إلى واجهة التاريخ، بعد قرون من الخفوت والتهميش.

وكان هذا النهوض انطلاقًا من تعز، لا بوصفها فقط عاصمة جغرافية، بل كمنصة للانبعاث السياسي والفكري، وكمركز لصناعة الدولة لا لتفكيكها.

لقد قطعت الدولة الرسولية الطريق على المتمردين الذين اعتادوا اللعب بورقة الطائفة أو القبيلة ضد كيان الدولة، وأثبتت أن الاستقرار ليس نقيضًا للتعدد، بل نتيجة لعدالة التوازن وقوة الفكرة.

الشاهد أن التأثير الثقافي للدولة الرسولية لم ينتهِ بانتهاء سلطتها، بل ظل حيًّا بعد أفولها، وما زالت آثاره ماثلة في تعز وما جاورها حتى اليوم.

والسؤال الجوهري: ما سرّ بقاء هذه الدولة كل تلك الفترة الزمنية؟
ليس في قوتها العسكرية وحدها، ولا في امتداد نفوذها الجغرافي، بل في ثقافة المقاومة التي تبنّتها في مواجهة الانهيار الداخلي.

فقد استطاعت أن تؤسس توازنًا دقيقًا بين السلطة والمجتمع، يقوم على أن الحاكم لا يملك الأرض ولا الناس، بل يمارس سلطة إدارية مقيدة تستمد مشروعيتها من التشريع، لا من السلالة أو الغلبة.

وهذا المفهوم التقدمي ــ الذي يبدو في بعض جوانبه أكثر تطورًا من كثير من نماذج الحكم المعاصر ــ ترك أثرًا طويل المدى، ما زال يُلقي بظلاله على المخيال السياسي والاجتماعي في اليمن، خاصة في تعز، حيث بقيت فكرة الدولة مرتبطة بالعدل والتوزان لا بالقهر والهيمنة.

 

في العصر الحديث، تعرّضت اليمن لوجهي الاحتلال معًا: الغزو الأجنبي، وسلطة الجهل والطائفية. الجنوب وقع تحت قبضة الاستعمار البريطاني، والشمال تحت نير سلطة الكهان، حيث العصبية السلالية والجهل السياسي والديني.

ومن رحم تلك المظالم، نشأت النقمة الشعبية، فكانت الثورة اليمنية ــ بمراحلها المختلفة في 1948، 1962، و1963 ــ نتاجًا لفعل مقاوم واعٍ، لا حالة نزق لحظي أو انفعال عابر.

فالثورة لم تنتهِ حين ضُربت في مهدها عام 1948، ولم تنغلق داخل حدود الشمال عام 1962، بل توسّعت جنوبًا في 1963، لتكمل مشروع التحرر من الاستعمار والاستبداد معًا.

لم تعترف الثورة اليمنية بحدودٍ رسمها الاحتلال أو الإمامة، بل واصلت رسالتها، حتى كان لها أثرٌ واضح في طرد الاستعمار من الجزيرة العربية برمتها، وخلقت حراكًا فكريًا وتنويريًا كان محل اهتمام وجدل في الإقليم كله.

والسبب؟
هو الوعي اليمني المقاوم الذي لم يكن رد فعل مؤقت، بل مشروع تحرري طويل الأمد، يُجيد قراءة تاريخه، ويصنع مستقبله.

 

ولأن المقاومة — كما يقول ميلان كونديرا — "فعلٌ من أفعال الذاكرة"، فإن النسيان هو بداية الهزيمة، واستحضار الظلم هو أولى خطوات دحضه.
من هنا، لم تكن تعز مجرد ساحة مواجهة، بل ذاكرة اليمن الجمعية، ومحورًا لا يمكن عزله عن سردية الثورة والمقاومة اليمنية الشاملة.

فلا تُذكَر الثورة إلا وتُذكَر تعز، لا مجاملة، بل لثقلها السكاني الواعي، ولأنها تمثّل الوسط الجغرافي والرمزي لليمن، بين شماله وجنوبه، بين ماضيه وحاضره، بين الحلم الوطني والانبعاث المتجدد لليمن الكبير. تعز لم تكن فقط في قلب اليمن، بل كانت قلب اليمن حين تاهت القلوب.

مع عودة الرجعية الطائفية والمناطقية والجهوية بثوبها الحوثي عام 2014، كانت تعز أول من حمل مشعل المقاومة، وقالت — كما عبّر سارتر —: "لا في وجه من قالوا نعم".

لم تنتظر تعز كثيرًا من الحسابات ولا خارطة توازنات، بل انبثقت المقاومة فيها تلقائيًا، فعلًا حرًّا نابضًا بالكرامة، لإيقاف الانقلاب عند تخومها، ولقطع طريقه نحو عدن، لا بدافعٍ مناطقي، بل لإنقاذ اليمن كله — شمالًا وجنوبًا — لا لإنقاذ تعز وحدها.

لهذا السبب بالذات، ضُرب الحصار على تعز، وظلّ يُشدّ عليها الخناق منذ لحظة التمرّد الأولى وحتى اليوم، لأن سلطات الانقلاب أدركت أن الخطر الحقيقي لا يكمن في السلاح، بل في الإرادة التي لم تخضع.

 

صحيحٌ أن المقاومة لم تتمكّن من منع فرق الغزاة من جيش الإمامة المتدثر بالجمهورية — بألويتها وحرسها — من الزحف نحو عدن، لكنها في المقابل أشعلت شرارة الرفض شمالًا وجنوبًا، في سباقٍ مع الزمن ومع جحافل التخلف التي سخّرتها الإمامة الحوثية للسير في ركاب انقلابها المشؤوم.

وكما قال جان بول سارتر:

"ليس المهم أن تنتصر، بل أن تُقاوم حتى لا تنتصر الكذبة."

في هذا القول، ينقلب مفهوم النصر التقليدي؛ فلا يصبح مرهونًا بالغلبة العسكرية، بل يتجلّى في الموقف الأخلاقي الحر، الذي يجعل من المقاومة فعلًا وجوديًا في مواجهة الزيف.

وهكذا، لم تكن شرارة المقاومة التي اندلعت من تعز مجرد ردّ فعل عفوي، بل تعبيرًا عن وعيٍ حرٍّ وإرادةٍ أصيلة. ولذلك امتدّ أثرها، وسرت روحها في الجسد اليمني كله، شمالًا وجنوبًا، مؤكدةً أن المقاومة ليست حدثًا، بل موقفٌ حرّ يتجاوز الجغرافيا ليصنع التاريخ.

 

إذا افترضنا ــ مجازًا ــ أنّ أخطار اليوم قد زالت: من التدخلات الخارجية، والتمرد الطائفي المحلي المدعوم إقليميًا ودوليًا. فهل سنكون آنذاك في غنىً عن المقاومة؟

الإجابة الحقيقية: لا.

ذلك لأننا لا نعيش في عالم المثاليات، بل في عالمٍ تحكمه المصالح والهيمنة والتفاوت القهري في موازين القوى.

ولهذا، ستظل الحاجة إلى المقاومة قائمة، لا كفعل طارئ، بل كثقافة راسخة. نحتاج إلى إشاعة ثقافة المقاومة من أجل: مواجهة الطغيان والاستبداد، سواء أكان محليًا أم وافدًا من الخارج. وتحصين الوعي الجمعي ضد "قابلية الهزيمة" والانقياد الطوعي للقوة الغاشمة. وتفكيك بنية النخب الانتهازية التي ما فتئت تبيع الوطن مقابل المال، أو المذهب، أو مصالح شخصية ضيقة وعابرة. والمقاومة، بهذا المعنى، ليست بندقية، بل وعيٌ أخلاقي، وسلوكٌ يومي، وأسلوبٌ في الفهم والموقف.

 

 مصدر النص: مسار للإعلام 

expanded image