الدكتور مجيب الحميدي يكتب لـ "اليمنيون ": دلالة اللون الأخضر في الطقوس الباطنية الفاطمية في ضوء علاقته بمشروع الاحتكار السلالي للنبوة والولاية

Published:
المشاهدات:
1947
دلالة اللون الأخضر في الطقوس الباطنية الفاطمية في ضوء علاقته بمشروع الاحتكار السلالي للنبوة والولاية


        يكتسب اللون الأخضر في الطقوس الفاطمية الباطنية دلالة خاصة على وراثة النبوة والولاية السلالية السياسية تتجاوز التبرير السطحي الظاهري لاختيار اللون رمزًا للدولة الإسماعيلية الفاطمية لكونه لون الجنة، أو علاقته المزعومة بالنبي صلى الله عليه وسلم في ضوء ما هو معروف عن الرايتين البيضاء والسوداء في عصر النبوة، واختيار الأمويين للون الأبيض والعباسيين للأسود، و الخوارج للون الأحمر . وهذه الألوان الثلاثة" الأحمر والأبيض والأسود" هي ألوان الحلة اليمنية التي كان يفضلها النبي صلى الله عليه وسلم كما أثبتت ذلك عشرات الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وجميع كتب السنة كما سنشير إلى ذلك لاحقًا مع تناول اسباب الانقلاب الحوثي في اليمن على رمزية الألوان اليمنية النبوية وانحيازهم إلى الرمزية الفارسية الفاطمية، والفرق بين تفضيلات مشروع أمة الرسالة وانحيازيات مشروع مذهب السلالة.

علم الدولة البوهيهية

 

بدأ تكريس اللون الأخضر في بلاد فارس بعد الانقلاب الفارسي البويهيي الشيعي على الخلافة العباسية العربية بالتزامن مع ظهور الدولة الفاطمية فاتخذت الدولتان البويهيية والفاطمية من اللون الأخضر عَلَمًا رسيمًا. ويستند هذا الترميز الشيعي للون الأخضر البديل عن اللونين الشائعين في عهد النبوة" الأبيض والأسود" إلى تأويلات دينية خرافية باطنية تربط بين اللون الأخضر وخرافة الوراثة السلالية الفاطمية للنبوة والولاية. ويتم تعزيز هذا الربط بأحاديث موضوعة تؤكد تسليم النبي صلى الله عليه وسلم للراية الخضراء لعلي ابن ابي طالب رضي الله عنه بتوجيه من جبريل الذي حضر مراسيم هذا التسليم لوراثة النبوة والولاية - ربما لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه أول مرة حسب اعتقاد بعض غلاة الشيعة(1) - وجاء في أحد الأحاديث الموضوعة المروية في كتب الشيعة عن ابن عباس أن جبريل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أترجة، فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: هذه هدية لعلي بن أبي طالب، فدعاه النبي، فدفعها إليه، فلما صارت في كفه انفلقت الأترجة فإذا فيها حريرة خضراء  نضرة مكتوب فيها سطران بخضرة: هذه هدية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب"(2) . وجاء في رواية أن جبريل نزل على علي بن ابي طالب نفسه في بعض الحروب فناول عليّاً سفرجلة، وفي رواية تفاحة، ففتقها فإذا في وسطها حريرة خضراء مكتوب عليها: "تحية الغالب الطالب على عليّ بن أبي طالب"(3)  وجاء في رواية أخرى في كتاب الكواكب الدرّيّة في النصوص على إمامة خير البريّة من تأليف صلاح بن إبراهيم الزيدي المتوفى أوائل القرن الثامن الهجري إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم جاع جوعاً شديداً فهبط عليه جبرئيل وأعطاه بلوزة خضراء من الجنّة، فقال: افككها. ففكّها فإذا فيها مكتوب" محمّد رسول الله، أيّدته بعليّ ونصرته"(4)  ولا أدري ما علاقة سياق الحديث بالجوع! ومن يتأمل عبارة "إمامة خير البرية" في عنوان الكتاب يمكنه أنه يدرك الفرق بين محورية النبي عند أمة الرسالة ومحورية الإمام في مذهب السلالة.   


 وجاء في رواية موضوعة أخرى  أن جبرائيل هبط  بأترجة خضراء من الجنة، فقال: يا رسول الله، إن الله يأمرك أن تدفع هذه الاترجة إلى علي بن أبي طالب فلما سلّمها إلى علي انقسمت إلى قسمين: قسم مكتوب عليه: محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين, وعلى القسم الآخر مكتوب "هدية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب"(5)  ومن يتأمل الرواية يجد أن كفة علي بن ابي طالب في ميزان الأترجة الخضراء أكبر من كفة النبي فقد جاء ذكر علي في الكفة الأولى مشاركا لذكر الرسول، وأنفرد علي بالذكر والهدية في الكفة الثانية فالنبي صلى الله عليه وسلم  في مذهب السلالة هو مجرد واسطة لتسليم النبوة والولاية للسلالة.


ومن المرويات التي يبرر بها البعض اختيار الدولة الفاطمية للون الأخضر ما جاء في روايات نوم علي رضي الله عنه في فراش النبي ليلة الهجرة ومنها رواية أكد ابن تيمية أنها موضوعة تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: يا عليُّ، اتَّشِحْ بب١ببُرْدي الحَضْرَميِّ الأخضرِ، ونَمْ على فراشي؛ فإنَّه لا يَخلُصُ إليكَ منهم مكروهٌ إنْ شاءَ اللهُ"(6)  .

(حلة يمانية أقرب إلى الحلة التي كان يلبسها النبي صلى عليه وسلم)


 وتؤكد الاحاديث الصحيحة أن الألوان التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفضلها في ملابسه ويرتديها في الأعياد والجمع والمناسبات تشمل ثلاثة ألوان" الحمراء والبيضاء والسوداء"؛ فقد روى الطبري في "خلاصة سير سيد البشر" أن أحب اللباس إلي النبي صلى الله عليه وسلم الحِبرَة، يقول الطبري "وهي من برود اليمن فيها حمرة وبياض"(7)   ويرى ابن القيم أن الحبرة اليمنية تجمع بين الثلاثة الألوان الأحمر والأسود والأبيض فيقول: "وَأَمَّا الْحُلَّةُ الْحَمْرَاءُ الَّتِي لَبِسَهَا – أي النبي- فَهِيَ الرِّدَاءُ الْيَمَانِيُّ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَحُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ"(8)  وحسب شرح ابن القيم لألوان الحلة اليمنية التي كان يفضلها النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواضح أن هذه الألوان هي نفسها ألوان عَلَم الجمهورية اليمنية في عصرنا الراهن.

وتحديد ابن القيم والطبري لهذه الألوان قائم على استقراء علمي من واقع معرفة المؤرخين بألوان البردة اليمنية ومن واقع الأحاديث الصحيحة الأخرى التي تحدثت عن تفضيل لحِبرة يمنية وتحدد ألوان البردة بالبردة الحمراء التي فيها خطوط بيضاء وسوداء، وقد ثبت تفضيل النبي لهذه البردة اليمنية أو " الحِبرَة اليمنية" في صحيحي البخاري ومسلم و صحيحي النسائي وأبي داوود(9)  وبقية كتب السنة المعتبرة  وأشارت الأحاديث إلى ارتداء أولاد علي ابن أبي طالب الحسن والحسين رضي الله عنهم البردة الحمراء في المناسبات الدينية بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم(10) . ولا عبرة في أي ١تفسير شيعي للون البردة النبوية باللون الأخضر لاستناد هذا التفسير على مجرد التخمين الطفولي باعتبار هذا اللون هو لون الجنة وتعسفه للحقائق القائمة على الروايات الصحيحة والدلائل الواقعية التاريخية.

علم الدولة الفاطمية

 

 وعودةً إلى موضوع اللون الأخضر فقد رسخت الدولتان البويهيية والفاطمية دلالة الأخضر السلالية في الوعي العام، ويبدو أن عقدة النقص عند المماليك قد دفعتهم إلى التوجيه بتمييز السادة الأشراف باللون الأخضر أو أن ذلك كان بإيحاء باطني من أحد المستشارين الفاطميين، ففي سنة 773 هجرية أمر السلطان شعبان بن قلاووون بتمييز عمائم الأشراف بعلامة خضراء(11) ، وقد وصف المؤرخ السيوطي هذا القرار بالبدعة المخالفة للكتاب والسنة، و اختلف الاشراف في كيفية التعامل مع هذا التمييز، فالبعض رحب به والبعض اعتبره تقليلًا من قيمتهم كما يظهر ذلك في قصائد الشعراء فقد نقل السيوطي عن أبي عبد الله الأندلسي قوله:
جَعَلُوا لِأَبْنَاءِ الرَّسُولِ عَلَامَةً ... إِنَّ الْعَلَامَةَ شَأْنُ مَنْ لَمْ يُشْهَرِ
نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَسِيمِ وُجُوهِهِمْ ... يُغْنِي الشَّرِيفَ عَنِ الطِّرَازِ الْأَخْضَرِ
و نقل قول شمس الدين الدمشقي:
أَطْرَافُ تِيجَانٍ أَتَتْ مِنْ سُنْدُسٍ ... خُضْرٍ بِأَعْلَامٍ عَلَى الْأَشْرَافِ
وَالْأَشْرَفُ السُّلْطَانُ خَصَّصَهُمْ بِهَا ... شَرَفًا لِيَعْرِفَهُمْ مِنَ الْأَطْرَافِ(12).

ويبدو أن أول ارتباط لدلالة اللون الأخضر بالنبي صلى الله عليه وسلم نفسه جاء بعد قرار السلطان عبد الحميد استبدال صبغة قبة المسجد النبوي باللون الأخضر بدلا عن الأزرق عام 1253هـ، والأرجح أن هذه الدلالة تسربت إلى العثمانيين من الفاطميين.
  ومن يتأمل في الروايات والطقوس العلوية في التعامل مع اللون الأخضر ودلالته الرمزية على توريث النبوة والولاية يدرك أسباب إصرار الحوثيين في اليمن على خضرنة أتباعهم في مناسبة المولد النبوي، فاللون الأخضر لا علاقة له بالنبي صلى الله عليه وسلم نفسه فلم يكن مولد النبي إلا واسطة لتسليم الراية الخضراء إلى الأسرة الفاطمية. ولهذا يتضايق أتباع مذهب السلالة من احتفاء أمة الرسالة بمناسبة بعثة محمد رسول الله في شهر البعثة، ويضايق الحوثيون من يحتفي بالبعثة ونزول القرآن في شهر رمضان بالصلاة وقراءة القرآن في صلاة التراويح ويعدون ذلك بدعة عمرية، وفي نفس الوقت يفرضون على الناس الاحتفال الفاطمي بمولد محمد بن عبد الله بالطقوس الفارسية الفاطمية ويعدونه تعبداً يأثم تاركه. مع أن القرآن الكريم احتفى بليلة البعثة واعتبرها ليلة مباركة " إن أنزلناه في ليلة مباركة" بل إن السموات والأرض والملائكة والروح كلها تحتفي مع أتباع الإسلام الرسالي ببعثة محمد رسول الله في كرنفال كوني لا تساوي الألوان الخضراء قطرة من بحر بهائه" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)" ولم يبدأ احتفال الإسلام السلالي بالمولد إلا في عهد الدولة الفاطمية.

ويستحسن بعض المسلمين الرساليين بدعة الاحتفال بالمولد النبوي من باب التذكير بنعمة البعثة النبوية ولاقتران مولد محمد بن عبدالله ببعثة محمد رسول الله أو للتعبير عن حبهم المأمور به شرعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنا شخصياً ممن يميلون إلى هذا الاستحسان للاحتفال بالمولد عندما يخلو من المنكرات الشرعية كبدعة المتاجرة السياسية بالمولد، واستثمار مولد محمد رسول الله لترويج خرافة الولاية ووراثة النبوة واحتكار تمثيل الإسلام. أو التعامل مع المولد كتكليف شرعي يأثم تاركه ويتعرض للتوبيخ والاتهامات المنكرة بكراهيته للنبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك.
المصادر:
1-    ينسب هذا القول إلى فرقة الغرابية وسميت بهذا الاسم لأنها قالت أن النبي كان يشبه علي كشبه الغراب للغراب فأخطأ جبريل، وقد أكد الكثير من مرجعيات الشيعة وجود هذه الفرقة وتبرأوا منها ومن هؤلاء محمد الموسوي الشيرازي في كتابه ليالي بشاور، و علي البروجردي في كتابه طرائف المقال وأشار إليها من علماء السنة ابن حزم وغيره.
2-    مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، هاشم البحراني، الجزء الأول مؤسسة المعارف الاسلامية - ج ١ - ص ٣٨٢. متاح على المكتبة الشيعية وقد أورد الحديث الإمام الشوكاني في كتابه عن الأحاديث الموضوعة في الفوائد المجموعة1/367 والسيوطي في اللآلئ المصنوعة1/338.
3-    الكواكب الدرّيّة في النصوص على إمامة خير البريّة، صلاح بن إبراهيم بن أحمد الحسني الزيدي المتوفى أوائل القرن الثامن الهجري والكتاب منشور على موقع أهل البيت في هذا الرابط: https://abu.edu.iq/research/articles/13175#_ftn108
4-    المصدر السابق
5-    مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر، مصدر سابق، ص 442.
6-     تقي الدين أبو العباس ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1986ص 112- متاح في المكتبة الشاملة
7-     أبو العباس، أحمد الطبري، خلاصة سير سيد البشر، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة – السعودية، ١٩٩٧ط  1، ص98 – متاح على المكتبة الشاملة.
8-     شمس الدين ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت طبعة منقحة ص218 متاح في المكتبة الشاملة.
9-    الحديث مروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه في البخاري برقم(5812)  ومسلم برقم(2079 ) والنسائي برقم(5330 ) وابن حبان برقم( 6396) وغيرهما.
10-     أخرج النسائي في سننه برقم (1413 )عن بريدة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فيهما فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فقطع كلامه فحملهما ثم عاد إلى المنبر.
11-    عبد الرحمن السيوطي، تاريخ الخلفاء مكتبة نزار مصطفى الباز، القاهرة،2004 ط 1 - ص351 متاح على المكتبة الشاملة.
12-    عبد الرحمن السيوطي، الحاوي للفتاوي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ج 2 ص 40، 2004.

expanded image