رحم الله فقيد الوطن الأديب المفكر اليمني العظيم الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح، عظم الله أجرك يا وطن عظم الله أجرنا جميعا.
“الرجال العظام في تاريخ الشعوب قلة، وهم في تاريخ كل شعب يعدون بالعشرات، لكنهم في تاريخ شعبنا -لأسباب ليس هنا موضع الحديث عنها – يعدون بأصابع اليدين، ولا شك أن الزبيري منهم” والحديث هنا من مقدمة المقالح لكتاب (الزبيري شاعراً ومناضلاً)، ولا شك أن المقالح من الرجال الذين يعدون بأصابع اليدين، فهو من نفس طينة الزبيري، وقد أبدع في وصف إنسانية الزبيري وسخر ممن يدعون عصبويته للعرق القحطاني أو لطائفة معينة، فهو بحسب وصفه صوفي إنسان يحب كل الناس ويحب لهم الخير، وعلى هذا النهج الإنساني الصوفي كان فقيدنا يمضي بين الناس. كما أنه على خطى الزبيري حافظ على شخصيته مثقفاً عابراً للأيديولوجيات، لا يستطيع حزب أو اتجاه سياسي أن يستأثر به، فالمثقف ملكٌ للأمة وليس منتمياً لطائفة أو أيدلوجيا بعينها، وسار على طريق الزبيري أيضاً في كسر عزلة اليمن الثقافية سواءً عن محيطه القومي أو الإنساني.
في مرحلة التنافس على الصدارة وكثرة أحاديث الكثير عن الذات ومشاركتها في الثورة والجمهورية الخ انبرى المقالح للدفاع عن أول مراحل الثورة اليمنية وهي ثورة 48 (والتي يقرأها عابرو السبيل على انها مجرد ثورة فاشلة أو انقلاب إلى آخر هذيانهم)، قدم الكثير للتعريف بها وبقادتها؛ كتابة، ودراسات، وندوات، ما تزال أروقة ومكتبة مركز الدراسات والبحوث الذي كان يرأسه شاهدة عليها، جمع لها الباحثين ومن تبقى من الرواد وأنتج الدراسات والكتب حولها.
لولا جهوده وجهود المخلصين معه لاستطاعت الإمامة إزاحة أدب وفكر الثورة اليمنية عن الواجهة، ومن خلال مركز الدراسات والبحوث تم التأصيل للثورة، وقد كتب عنها وعن رموزها؛ كتاب “الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني” وضمن سلسلة أعلام الحرية أصدر كتاب “الحورش الشهيد المربي” وكتاب “القاضي عبد السلام صبرة”، وفي كتابه “من الأنين إلى الثورة” كتب عن جمال جميل والوريث وناشر العريقي والحكيمي، وفيه ما يوضح الكثير من الحقائق الغائبة عن الأجيال الجديدة، ووقف سداً منيعاً ضد كل من أرادوا النيل من الثورة اليمنية.
كيف لا يفعل كل ذلك وهو قد عاصر مراحل الثورة الأربع، لقد عاش حياة النضال في كنف والده المناضل صالح المقالح، وفقيدنا هو أحد ثوار سبتمبر وهو المدني الأقرب لتنظيم الضباط الأحرار، منذ أربعينيات القرن الماضي حمل على عاتقه فكرة التغيير الثقافي الذي يلزم لكل ثورة، ولذلك كرس جهده لهذا الهدف منذ سبعينيات القرن الماضي إلى أن غادرنا تاركاً تاريخاً من حب اليمن والعروبة وميراثاً ثقافياً كبيراً، أدباً وشعراً وفكراً ونقداً.
بالأمس لمناه لصمته عن الثورة التي خرجت أمام عينيه في 2011م، ونسينا أنه عاش الثورة منذ صباه مناضلاً وابن مناضل منذ خرج للدنيا، فقد عاصر مراحل الثورة اليمنية الأربعة، وشارك ضمن ثلاث مراحل منها، ونسينا ونحن نكيل له اللوم أن الثورة قد انطلقت من عتبات الجامعة التي أفنى عمره فيها، ومن عتبات الكليات التي أسسها في المحافظات وتحولت فيما بعد لجامعات، أستطيع القول إن المرحلة الرابعة من مراحل الثورة اليمنية، كانت ثمرة من ثمار الثقافة اليمنية التي كرس المقالح حياته لها.
وفي محنته أمام قوى الظلام أنتصر بصبره على من جهلوا قدره وعلمه وجهده، فبين “صار الله” و”كان الله” كلمات موجوعة من توحش القوم على الناس باسم الله، وباسم تدين غريب عن أصول وروح الدين الحنيف، وفُهمت كلماته على غير مقصدها، فكانت المحنة تكفيراً وقيحاً على ألسن من لا يفقهون اللغة، وهم يتهمون كل من خالفهم في فهمهم أنه لا يفقه في اللغة – فلغة الشعر والأدب صعبة استعصت على أفهامهم – وخلاصة الأمر لم يفهموا لغته، فراحوا يتهمونه بالإلحاد.
“يا ليتهم قد قابلوه في الطريق وعانقوا بحر الغرام العميق” ليتهم تعرفوا عليه من خلال ما كتبه هو، ومن خلال ما قاله هو، لا عن طريق ما قيل لهم في الخفاء. مع ذلك علينا أن ندرك أن الزمن جزء من العلاج، والتاريخ يُنصف، علينا بذل المزيد في مراجعة أفكارنا، والتخلص من مسلماتنا التي خضعنا لها كأي شعب، وكمجتمع معرفة علينا بذل الجهد ومواصلة القراءة والتنوير وإجراء المزيد من الدراسات، لنصل إلى الفهم والمعرفة.
خالف المقالح بعض النقاد العرب ، فأكد على انتساب الشعر الحر لليمن من خلال أديب اليمن الكبير علي أحمد باكثير صاحب السبق في هذا الاتجاه الجديد للشعر، قبل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وهو الذي سبقهم في تجديد الشعر العربي الحديث، انطلق فقيدنا مما تهرب منه القوميين العرب، فاليمن هي مهد العروبة، والعرب ينتسبون لها لا العكس، ومن اليمن بدأ الشعر منذ امرؤ القيس الكندي أشعر العرب بلا منازع، والذي على شعره كان يقاس الشعر وتحاكم الأبيات، ومن اليمن أيضاً ابتدأ الشعر الحر، وهذا ما ذهب إليه المقالح في تعريفه وتقديمه لباكثير.
بسبب تجاهل الأيديولوجيات المتصارعة لباكثير، قام المقالح بالواجب تجاه ما قدمه من شعر ومسرح وقصة، وهو الذي غادر اليمن وحضرموت إلى القاهرة حاملاً معه فكر التغيير والتجديد في فنون الأدب، ولتصنيفه الأيديولوجي لقي العنت والتجاهل فقال قولته المشهورة “لأن أكون راعي أغنام في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة” لذلك وجد طريقه إلى قلم المقالح الذي أنصفه وأزاح الغبار والنسيان عنه، فكان كتابه “علي أحمد باكثير رائد التحرير في الشعر العربي المعاصر” وفيه فصول عن الشعر والمسرح والرواية.
الوظيفة الحكومية أخذت من عمره الكثير فمنذ 1982- 2001م تولى رئاسة جامعة صنعاء، ولا شك أن الوظيفة نافست أدبه وشعره وفكره، لكن وجوده في رئاسة الجامعة قد حول صنعاء إلى قبلة الأدباء والشعراء والمفكرين العرب من كل اتجاه ومشرب، لا يفرق بين عربي وعربي لأيدولوجيته فموقفه العروبي ظل واضحاً وصريحاً على الدوام، وأضفت صنعاء برونقها الساحر على كل الفعاليات الثقافية التي أقيمت فيها.
ومع أن أشعاره غطت أرجاء اليمن الكبير، حباً وفخراً واعتزازاً، لم ينسه حبه لليمن حبه للوطن العربي الكبير، فهو أحد رواد الشعر والنقد الأدبي العربي الحديث. ومع كرهه للسفر وصلت أشعاره وقصائده الخارطة العربية بل وتعدتها إلى ربوع كثيرة وبعيدة.
ما هو دور المقالح المثقف تجاه شعبه؟ تمثل دوره في الإصلاح الثقافي والعلمي هما وسيلة المثقف الحقيقي لإحداث التغيير طويل المدى فهما أفضل الطرق لإحداث التغيير الاجتماعي وللتأثير على النخب والمجتمع معاً، وهما الضامن الأكبر لعدم تمزق المجتمع، ومن خلال عمله محاضراً في جامعة صنعاء ورئيساً لها فيما بعد، ورئيساً لمركز البحوث والدراسات كان قريباً من الناس، لكنه بعد تفرغه من عمله صار قريباً أكثر من جيل الأدباء والشعراء الشباب، والذي ما انفك راعياً ومشجعاً لهم؛ أخذ بأيديهم وقدمهم للجمهور، لم يبخل على أحد، قدم لمعظم ما وصله من نتاجهم الأدبي، قرأ بعضاً من نصوصهم، وعلق عليها، ونشر منها في عموده الصحفي في يومية الثورة كل ثلاثاء.
في الجامعة والمركز كان المحاضر والمعلم والراعي والأب الروحي للثقافة والمثقفين، و في الحياة هو الصوفي المعتزل فكراً القريب روحاً وجسداً من الناس، مارس دوره الثقافي التنويري على أكمل وجه، وعمل في مشروعه التغييري الذي اختطه الثوار من بداية القرن الماضي، تأثر بهم ودافع عنهم وعن الثورة وظل وفياً لمشروعهم الثقافي، وهذا هو ما جعله يأخذ موقعه بين المختلفين أيديولوجياً وسلطوياً، (قريباً من الكل بعيداً عن الجميع) لديه مشروع ثقافي تغييري لا يحتمل الخصومة والجفاء مع أي طرف، وبقى على مسافة واحدة من السلطة والمعارضة.
لكل ذلك اتضحت أبوته الثقافية والأدبية، ولم تجره السياسة لخصوماتها اللامتناهية، فلم يكن من الاتجاه الصدامي المواجه، بل من الاتجاه المناور المحاور الحذر الصابر والمتبصر، فهو الأديب الشاعر الذي يستطيع أن يوصل رسائله للجميع عبر أبياته وكتاباته ونصوصه، وليس بحاجة إلى الجدل فصوته المنخفض الهادئ مسموع من الجميع.
شاهدنا جميعاً جنازته المهيبة في صنعاء- للأسف لم نكن فيها- لم تكن مجرد جنازة إنما وقفة جماهيرية مع المقالح المثقف والأديب والمفكر وانحيازاً جماهيراً لمشروعه الثقافي الوطني الأصيل، وقد ودعته صنعاء ووضعته في قلبها، وهي التي كانت دوماً في قلبه وظل يحرسها ولم يفارقها ولم تفارقه، وقد قال فيها:
“صنعاء يا بيتاً قديماً
ساكناً في الروح
يا تاريخنا المجروح
أخشى عليك من القريب
ودونما سبب
أخاف عليك منك
ومن صراعات الإمارة”
الرحمة والخلود لفقيد اليمن الكبير والعزاء لليمن والعرب ولكل محبي الشعر واللغة والادب ولكل من ينتمون لليمن.
*كلمة الدكتور فيصل علي رئيس مركز يمنيون للدراسات في عزاء الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح الذي أقامته الجالية اليمنية في ماليزيا في قاعة جامعة UUMKL بالعاصمة الماليزية كوالالمبور 4 ديسمبر 2022م.
اقرأ أيضاً: