26 سبتمبر ومشروع الثورة الدائمة
الدكتور عبد العزيز المقالح
الحديث عن الثورة الدائمة لا ينبغي أن يزعج أحدًا من أبناء هذا الوطن الذي رأى أحد المفكرين العرب في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي أنه لكي يتخلص هذا الوطن من مخلفاته المعيقة فإنه بحاجة إلى أكثر من مائة ثورة. وأعني بهذا المفكر الأستاذ الجامعي والسفير الدكتور عبدالوهاب عزام الذي شغل في صنعاء منصب سفير مصر العربية في أوائل الخمسينيات، وكان قبل ذلك قد عمل سفيرًا لمصر في باكستان.
وهناك التقى بشاعر اليمن الكبير المناضل المشرد الأستاذ محمد محمود الزبيري، ودار بينهما أكثر من حديث وأكثر من حوار حول واقع اليمن وما كان يمر به من ظروف في تلك الأثناء. وعندما وصل عبد الوهاب عزام إلى صنعاء هاله، بل أرعبه، ما رأى من صور التخلف. وفي حين كان يظن أن بعضًا مما رواه الأستاذ الزبيري لا يخلو من المبالغة، فقد قال بعد ما رأى الواقع اليمني بعينه إنّ ما رواه الأستاذ الزبيري لم يكن إلاَّ أقل من القليل.
ولذلك فقد كان هذا المفكر والأديب الكبير عبد الوهاب عزام على حق عندما قال في حينه إن اليمن لا تنفع معها ثورة واحدة، وأنها بحاجة إلى أكثر من مائة ثورة لكي تتمكن من اقتلاع ما في نفوس أبنائها من المؤثرات السلبية والمخلفات التي تراكمت عبر القرون الأخيرة.
لذلك فقد كانت بحاجة إلى ثورة على الاحتلال الأجنبي أولًا، وثورة على مخلفاته التشطيرية، وثورة على تقسيماته المناطقية وسلطناته. وكانت ثانيًا بحاجة إلى ثورة على الحكم الفردي الكهنوتي الغاشم الذي كان يرى أن الحكم هبة إلهية لعائلة واحدة فقط. كما كانت البلاد كلها بحاجة إلى ثورة ضد النعرات العنصرية التي وضع الحكم الفردي أساسها البغيض، وثورة ضد النعرات القبلية، وثورة ضد المحاصصة المناطقية والطائفية التي جعلت اختيار رجال الدولة يتم على أساس مناطقي جغرافي، لا على أساس الكفاءات والقدرات والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن بأكمله.
ولعل أهم ما كانت البلاد تحتاج إليه، وما زالت شديدة الاحتياج إليه، هو ثورة أخلاقية تغسل ما ترسب في النفوس من أمراض التخلف وحزازات التشطير.
تلك بعض الثورات التي كانت البلاد بحاجة إليها لكي تتخلص من معوقات التطور ومثبّطات التنمية، فضلًا عما كشفه الواقع الراهن من انحدار في القيم وغياب الولاء الوطني بمعناه العميق، ومن رغبة في بعض النفوس الجاهلة والمريضة في تحويل اليمن الواحد إلى سلطنات وممالك تُذكِّر بما كان عليه الحال في عصور الانحطاط، وهو ما كان يومئذ مستهجَنًا ومرفوضًا. فكيف ونحن في بداية الألفية الثالثة، وفي عصر تتوحد فيه الشعوب وتتلاقى فيه مصالحها رغم الاختلافات القومية واللغوية والدينية.
إن هذا الذي يحدث في بلادنا يدخل في باب أعجب العجائب وأغرب الغرائب، ولو عاد موتى عصور الانحطاط لوصفوا ما يضطرب به واقعنا من ترهات ونوازع انقسامية بأنه أسوأ وأنكى مما شهدته عصورهم المنحطة.
وفي الطريق إلى المستقبل المنشود، ولكي نكون جميعًا نحن أبناء هذا الوطن عادلين ومنصفين مع أنفسنا ومع بلادنا، لا بد أن نتفق على إدانة العهدين الملكي الفردي، والاستعماري الدخيل وما تركاه من مخلفات ورواسب سلبية، وأن نعي بأن الوطن يتسع لأبنائه جميعًا، بعيدًا عن الانتماءات الطائفية والمناطقية، بعيدًا عن الانسياق وراء شعارات الفوضى والإثارة التي تبدو للبعض جذّابة ورنّانة وصادرة عن الانفعالات الناتجة عن ردود أفعال آنية لن تنتج على المدى القريب أو البعيد سوى مزيد من الإحباط والتنافر داخل العائلة اليمنية الواحدة، التي توفر لها من أسباب الانتماء الوطني ما لم يتوفر لأي قطر عربي آخر.
وفي مناخ استذكارات القفزة التاريخية التي أحدثتها الثورة اليمنية (سبتمبر-أكتوبر) وفي مناخ أعياد الاستقلال ينبغي أن يراجع العقلاء من أبناء هذا البلد أنفسهم، وينظروا إلى أبعد من اللحظة الرمادية الراهنة بكل ما يحيط بها داخليًا وخارجيًا من أن حب الوطن لا يكون بالأصوات العالية، ولا بالمراهنة على تأجيره للأعداء، كما لا يكون باستدراج الأبرياء إلى الهتافات المضللة والموت المجاني، وإنما يتجلى حب الوطن بالعمل والسهر من أجله، والتفاني الصادق في الولاء له وحده قبل الحزب وقبل المذهب، والطائفة، وقبل المصلحة الذاتية.
فهل نحن نحب الوطن حقًا؟ وهل نشعر أنه قريب من قلوبنا ووجداننا؟ لا جواب.
تأملات شعرية:
هي في القلب لا في الشفاهْ.
تراها -إذا شئتَ- في الصبح شمسًا،
وفي الليل ضوءًا ينير الحياهْ.
تبحث الأبجديةُ عن كلماتٍ ترد اعتبار الشعوب
فلا تلتقي (غيرها) شرفًا للنفوس ورافعةً للجباهْ.