- الأستاذ الدكتور داود عبد الملك يحيى الحدابي كلية التربية، الجامعة الإسلامية العالمية الماليزية، ماليزيا
dawood@iium.edu.my
مقدمة:
لا شك أن موضوع التحسين والتطوير والتأكد من جودة الأعمال في التعليم قد بدأ منذ بدء عمليتي التعليم والتعلم؛ إلا أن المصطلحات قد تختلف من عصرٍ لآخر ومن ثقافةٍ لأخرى. أما فيما يتعلق بالمنهجية الحالية فقد بدأت في القرن العشرين والواحد والعشرين. "الولايات المتحدة بدأت بعد منتصف القرن العشرين. وبريطانيا بدأت عام 1997. وأوروبا بدأت عـام 2000. الدول العربية: بدأت دولة واحدة عام 2000، أغلب الدول بدأت بين الأعوام 2004 و2010."
ومن خلال خبرتي الشخصية حيث بدأت بتأسيس وحدة خاصة بضمان الجودة عام 1999 بعد زيارتي للملكة المتحدة لحضور سمنار حول ضمان جودة التعليم الجامعي في جامعة اكسفورد. ونتيجة لقناعتي وحماسي لهذا النظام فقد بدأت بتطبيقه ومن ثم تطوير نظام أسميته نموذج التميز لجامعة العلوم والتكنولوجيا والتي كنت أترأسها من عام 1994 – 2007م.
تعريف الجودة: تختلف باختلاف وجهات النظر: من نظر الطالب، أو الأستاذ، أو الإداري، أو جهة الاعتماد. وهناك عدد من التعريفات:
التعريف الأول: تلبية الأهداف بحيث تسعى الجودة إلى الاتساق بين أهداف المؤسسة بأهداف البرنامج وأهداف المقرر. وهذا لا يُمثل المرونة بالإضافة إلى صعوبة القياس فليس كل الأهداف يمكن قياسها رغم سهولة الرقابة والمحاسبة نتيجة لوضوح الأهداف وأهمية اتساقها في المستويات المختلفة.
التعريف الثاني: التعريف المُتصل بمستوى الرضا المُتمركز حول أصحاب المصلحة (الطلبة، الأساتذة، من يوظف الخريجين، أولياء الامور ...إلخ). والتي يمكن أن تفيد في مجال إعطاء تغذية راجعة ولكنها تصورات وآراء ذاتية وليست بالضرورة موضوعية. ونحن نعلم أن موضوع الجودة بدأت من شركات ومؤسسات القطاع الخاص في مجال السلع والخدمات وحاولت المؤسسات التعليمية تكييف هذه الأنظمة لتواكب التحول التجاري للخدمات التعليمية وتسليعها.
التعريف الثالث: تركز على المعايير والممارسات الفضلى والمرجعيات مع التركيز على التحسين المستمر والتي تركز عليها مؤسسات الاعتماد أحياناً وتصنيف وترتيب الجامعات. وعادةً تتميز فيه الجامعات ذات التمويل العالي والقديمة والكبيرة والتي يهمها سمعتها العالمية وتستقطب فئة محدودة من الطلبة كأن يكونوا المقتدرين مالياً أو المتميزين علمياً. وهذه تتطلب مصادر مالية كبيرة مع تسبب الضغوط على منسوبي الجامعات بمتابعة التميز.
التعريف الرابع: التمحور حول الكفاءة والفاعلية حيث يراعى السوق والكفاءة المالية للطلبة والحصول على الربحية فالنظرة تجارية بشكلٍ رئيس. أي الجامعة تُراعي أنها تقدم خدمة تعليمية بقدر الرسوم من الطلبة وتحاول تضمن استدامة الجامعة وخدماتها مع توفر الربحية. وهذا يكون على حساب جودة التعليم مع التأثير السلبي نسبياً على جودة المخرجات مع عدم النظر على البُعد الاستراتيجي إلى حدٍ ما.
التعريف الخامس: التحسين المُستمر (من ممارسة التقييم): حيث ينظر للجودة على أنها عملية تحسين مستمر في التعليم والتعلم والبحث وخدمة المجتمع من خلال التقييم الدوري وتنفيذ الاجراءات التصحيحية لضمان التحسين المستمر. ويمثل التقييم ظاهرة جيدة إلا أن هذا النوع من الجامعات المتبينة لمثل هذا التصور تعتمد على ما كان يُعرف بإدارة الجودة الشاملة والتركيز على العمليات أكثر من المدخلات والمخرجات. تُراعي الجامعة التغيرات الحاصلة حولها وتستفيد من آراء أصحاب المصلحة في داخل وخارج الجامعة وتُركز على الشواهد العملية لعملية التحسين. مثل هذا التحسين قد يتطلب استثمارات عالية قد تأخذ وقتاً طويلاً وقد لا تظهر التحسينات كما ينبغي.
التعريف السادس: الجودة المعتمدة على المخرجات: تُركز على جودة مخرجات الجامعة كما يتم قياسها في ضوء الخطط والأهداف. كما أنها تُركز على قياس المؤشرات الدالة على المخرجات والتي تعدها في ضوء حاجات السوق والتي يسهل محاسبة ومُساءلة منسوبي الجامعة عليها. ومن سلبياتها أنها تُركز على ما يمكن قياسه. مع وجود ضغط على الأساتذة والطلبة وعدم وجود مرونة بالإضافة إلى أن العديد من الأهداف مثل المُواطنة والالتزام بالأخلاق المهنية وغيرها قد لا يمكن قياسها رغم أهميتها.
نستخلص مما سبق من تعريفات:
أثر البعد الصناعي والتجاري على المؤسسات التعليمية.
النظرة للتعليم كسلعة والطالب كعميل أو زبون.
غلبة البعد الربحي في عملية اتخاذ القرار.
التوجه الرسمالي في المؤسسات التعليمية.
نسيان البعد الرسالي والأخلاقي للتعليم.
المسؤولية المجتمعية تطوع وليس واجب.
هذا لا يعني بالضرورية عدم الاهتمام بالجودة والتحسين المستمر "فمن استوى يوماه فهو مغبون" " رَحِمَ اللَّهُ امرَأً عَمِلَ عَمَلًا فَأَتْقَنَهُ ". فبذل الجهد في الإحسان والجودة والإتقان جميعها يؤكدها الدين الإسلامي، ولكن لا ينبغي ألا يكون المُنطلق المادي هو المحدد الوحيد والمُحفز للجودة بل لاعتباره عبادة وواجب أخلاقي، لاسيما فيما يخص بناء الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه؛ لإعمار الأرض ودعم رفاهية الإنسان وسعادته في الحياتين.
فوائد وعيوب تبني نظام الجودة والاعتماد في مؤسسات التعليم العالي
الفوائد:
تطرقت البحوث للعديد منها:
ساعد في وضع معايير لتحسين جودة العملية التعليمية وبيئتها.
تحسن من توفير المعلومات وتسهيل عملية التقييم والرقابة.
في حالة توفر نتائج عملية التقييم والتغذية الراجعة تساعد في عملية التحسين المستمر.
تساعد في تحسين الخدمات المقدمة للطلبة ومن ثم رضاهم والحفاظ عليهم من التسرب.
تساعد عملية الترويج والتسويق في حالة حصولها على الاعتمادات المحلية والدولية.
تساعد في الاستخدام الافضل للمصادر والتسهيلات البشرية والمادية والمالية.
العيوب:
أشارت نتائج البحوث للعديد منها من ذلك:
زيادة البيروقراطية الإدارية وتأجيل عملية اتخاذ القرارات.
استهلاك أعمال الأساتذة في الأعمال الإدارية الروتينية.
زيادة المصاريف والتكاليف المالية لاسيما للجامعات الصغيرة.
تطبيق معايير الجودة تجد صعوبة في التغيير مما يؤدي إلى كثير من الاحباطات وقلة الحماس لأنها تمثل ثقافة جديدة.
تطبيق معايير الجودة لا تراعي الأولويات والخصوصيات للبلدان والجامعات والثقافات المختلفة.
المعايير والمؤشرات تركز أكثر على البُعد الكمي أكثر من البُعد النوعي. فليس كل مظاهر الجودة يمكن تكميمه.
تطبيق معايير الجودة تؤثر على خاصية المرونة والإبداع. المعايير مُنحازة للجامعات الكبيرة والتي لها ملاءة مالية كبيرة لتمكنها من تلبية المعايير بسهولة. فعلى الجامعة في دولنا الاستفادة من الجامعات الكبيرة ولكن يجب عليها التركيز على خدمة مجتمعاتها بشمل رئيسي والتركيز على التحسين في حدود امكانياتها في ضوء أولوياتها.
تُعطى الأولوية للمعايير وليس للتعليم والتعلم.
تركز على الإجراءات والتوثيق والتي تأخذ حيزاً من الجهد والوقت والمال.
تخضع للقرارات العُليا وليس من خلال تمكين منسوبي الجامعات لتجويد العمل التعليمي.
لا تستجيب بسرعة للتغيرات والمستحدثات المتسارعة في مجالات التقنية والمعلوماتية وأنماط التعلم الحديث كالتعلم الافتراضي والذكاء الاصطناعي.
لا تساعد على التنوع والابتكار وانما على التنميط للممارسات.
لا تسهم في البناء الشامل للمواطنة والتركيز على السوق وتسليع التعليم.
التحديات التي تواجه الجودة في مؤسسات التعليم
في الدول النامية:
أشارت العديد من البحوث إلى هذه التحديات لاسيما في جامعات دول العالم الثالث ومنها أغلب الجامعات في الدول العربية.
إنه يصعب التعميم لهذه التحديات؛ فكل بلدٍ مختلف نسبياً عن البلدان الأخرى. ومع ذلك فيمكن توضيح قضايا مشتركة تؤثر سلباً على جودة التعليم الجامعي وأنظمتها:
الموازنات المالية المحدودة للجامعات والتعليم عموما مقارنة بالمصروفات للمجالات الأخرى والتي لا تقارن أهميتها في التنمية مثل التعليم.
محدودية البنية التحتية والتي تتطلبها معايير الجودة في المباني والمعامل والتجهيزات والمصادر الرقمية والتي تؤثر سلباً على جودة التعليم والبحث العلمي.
ضعف في المهارات لدى أعضاء هيئة التدريس والإداريين سواء في الجوانب الأكاديمية والمهنية أو الإدارية.
ضعف حوكمة الجامعات وأدائها.
محدودية التنمية المهنية لمنسوبي الجامعة حيث يؤثر ذلك في تحديث المعارف والمهارات بأنواعها.
مقاومة التغيير فالقرارات مركزية بالإضافة إلى هيكلية نوعاً ما جامدة حيث لا يشجع منسوبي الجامعة على المشاركة الفعالة في عملية التغيير. كما أن أعضاء هيئة التدريس والإداريين قد يكون لديهم تصور أن الجودة تعني البيروقراطية الزائدة وإضافة أعباء ليست ذات جدوى.
تدني مستوى وضوح معايير الجودة لدى الجامعات ومنسوبيها مما يؤثر سلباً على إحداث التغيير المطلوب.
تدني مستوى نضج أنظمة الجودة والاعتماد في بعض الدول العربية بالإضافة إلى تدني مستوى الكفاءة في تطبيقها. كما أن بعض مستوى تفاعل تلك الأنظمة محدود مع العالم مما يحد من تبادل الخبرات وتحسن وتطوير أنظمة الجودة والاعتماد.
عدم توفر أو محدودية توفر قواعد البيانات حول البيانات المطلوبة وتنفيذ البحوث ذات الصلة وتحليل البيانات والمؤشرات المتعلقة بجميع ذوي المصلحة.
غياب العلامات المرجعية لجميع أنواع الأداءات والمؤشرات والتي يمكن الاستفادة منها لمعرفة الفجوات في أداء الجامعات.
أغلب الجامعات ينقصها الأدوات التقنية والرقمية والتي تيسر معرفة الأداءات بصورها المختلفة وتحليلها وتقديم التغذية الراجعة لإجراء التحسينات اللازمة.
ضعف البنية التقنية للجامعات سواء تعلقت بالجوانب الأكاديمية والمالية أو الإدارية أو تحليل البيانات والأنظمة الرقمية. كما أن المهارات الرقمية والتقنية ليست بالمستوى المطلوب.
عدم الاستقرار السياسي وتدخل الحكومات في الحرية الأكاديمية وأنظمة تسيير الجامعات والأوضاع الاقتصادية المتردية للعديد من الدول العربية.
قصور في اكساب الطلبة المهارات المهنية والتدريب الميداني المحدود وتدني مستوى العلاقات مع مؤسسات المجتمع لأغراض التدريب مما يؤدي الى تدني مستوى الكفاءة المهنية بعد التخرج. وفي حالة وجود برامج للتدريب فكفاءتها محدودة.
تدني مستوى كفاءة الخدمات المقدمة للطلبة مثل الارشاد الأكاديمي والنفسي والتعليمي وغيرها من الخدمات المتعارف عليها.
ضعف التقييم والتدقيق الخارجي وعدم انتظامه وعدم توفر الجدية والمهنية في عملية التقييم والتدقيق.
ضعف القيادة الفاعلة في تسيير الجامعات في جميع المستويات. بالإضافة الى تدني مستوى المحاسبة مما يؤثر سلبا على كفاءة الجودة وفاعليتها.
تدني مستوى تفعيل دور الطلبة سواء في تقديم التغذية الراجعة للجامعة وتدنى مستوى مشاركتهم في عملية التطوير والتحسين بالرأي والممارسة.
تدنى مستوى القيام بالدور البحثي للجامعات نتيجة للعديد من الأسباب إحداها التمويل.
بعض الجامعات قد يكون أعداد منسوبي الجامعة كبير ولكن فاعليتهم محدودة والبعض الآخر لا يتوفر لها الأعداد الكافية من منسوبي الجامعة بالإضافة إلى تدني مستوى الأداء.
تدني فاعلية الأداء التعليمي التعلمي وأساليب التقييم المتبعة.
تدني مستوى الاستفادة من التجارب العالمية ومحدودية العلاقات والشراكات العالمية المفعلة
مما سبق يتضح أن لكل تعريف ايجابيات وسلبيات. وعليه فيقترح أن تقوم الجامعات بالنظر في واقعها وثقافتها وتطلعات المجتمع وحاجاته بالإضافة إلى أولويات التنمية والمصادر البشرية والمالية والمادية المتاحة لها وعندئذ يمكن اختيار ما يناسبها من تعريف. وعلى الوزارة أن تقوم بدراسة مثل هذه الظاهرة واختيار ما يناسب المجتمع في الوقت الراهن، مع عدم إغفال التجارب الإقليمية والعالمية للاستفادة منها. والذي يهمنا هو دور الجامعات في نهضة البلاد وتنميتها وتحقيق الجودة والتحسين المستمر للأداء بشكل عام. وقد يكون من الأنسب أن توجد مؤسسات مختلفة في المجتمع تسهم في بعض جوانب التنمية أكثر من غيرها فهذا التنوع إثراء للتجارب التعليمية فقد تركز بعضها على البحوث التنموية وأخرى على الإعداد المهني للكفاءات وثالثة على البعد الأكاديمي والمهني معاً وهكذا.
باختصار فاعلية الكفاءات البشرية في جميع المستويات وقناعاتهم وثقافتهم المتعلقة بالجودة والأداء المؤسسي وحماسهم وشغفهم واستمتاعهم بالعمل والتطوير المستمر لازال محدوداً. كما أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية وحوكمة الجامعات وضعف البنية التحتية والتقنية والخدمات سواء للطلبة أو المجتمع. كما أن التمويل المحدود وتدخل الدول في مسيرة الجامعات، وعدم الاهتمام بالتنمية المهنية، والحفاظ على الكفاءات المتميزة من منسوبي الجامعات، جعلها تهجر البلاد وتنتقل إلى بلدان أخرى توفر البيئة المُحفزة والمُشجعة للإبداع والابتكار والتطوير المستمر على كافة مكونات النظام الجامعي. وأخيراً تدني مستوى مُواكبة التطورات في العالم وتلبية حاجات المجتمع التي تخدمه الجامعات وتأسيس أنظمة إدارية ومالية وأكاديمية وخدمية وبحثية ذات كفاءة وفاعلية.
توصيات:
على الجامعات في البداية التركيز على اختيار الكفاءات البشرية الكفؤة والمقتدرة والملتزمة بأخلاقيات المهنة والراغبة في رسالة وأهداف التعليم الجامعي بشكل عام والمؤسسة بشكل خاص، على أن يعطى أولوية للقيادات الأكاديمية والإدارية والمالية والأساتذة، ثم تطوير الأنظمة بأنواعها من قبل الخبراء المقتدرين مع وضوح الرؤية والنتائج المتوقعة لاسيما فيما يحقق مصالح المجتمعات ويدفع عنها المخاطر والاستخدام الفاعل للتقنية الرقمية في جميع أوجه الأنظمة المختلفة في الجامعة. وأخيراً يجب الانتباه إلى أهمية التمويل وضمان استدامة النمو والتطوير المؤسسي للجامعة.
- خلاصة ورقة عمل قدمها الأستاذ الدكتور داود عبدالملك يحيى الحدابي كلية التربية، الجامعة الإسلامية العالمية الماليزية، ماليزيا، في الملتقى الأكاديمي الأول للباحثين اليمنيين في ماليزيا الذي نظم من قبل الشبكة الدولية للبحث والتعليم المستدام (ISREN) ومركز يمنيون للدراسات واتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا، في قاعة جامعة (UNITEN)18 نوفمبر 2024.