أحياء على الافتراض، أموات في الواقع كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية للشباب؟

Published:
المشاهدات:
1612
كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية للشباب؟

أحياء على الافتراض، أموات في الواقع

كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية للشباب؟

محمد فتاح السامعي

first picture 1200x697 1
source: social dilemma movie

“لم أعد أحتمل، أشعر أني استنفذت كامل طاقتي، أنا على حافة الإنهيار، لم يعد لدي رغبة أو شغف في أي شيء؛ بما في ذلك البقاء والمكوث في هذا الواقع الافتراضي الذي سرق مني الواقع الحقيقي وحولني الى زومبي”.

شدني هذا المنشور الذي صادفته على حساب فيس بوك لشاب يمني يدعى صدام. كان هذا قبل فترة طويلة. واتذكر انني حينها شعرت بفضول لمعرفة القصة التي تقف خلف هذا المنشور. عندما بدأت أفكر بكتابة هذا التقرير، كان أول شيء تبادر الى ذهني، هو التواصل مع صدام ومعرفة ما الذي جعله يكتب ذلك. لحسن الحظ انه كان لا يزال في قائمة الاصدقاء بالرغم من مرور وقت طويل، ولا يزال نشطا على فيس بوك، عكس ما يفترض. بادرت بالتواصل مع صدام، ذكرته بالمنشور وبمجرد استفساري عن سبب كتابته، بدأ يسرد لي تجربته التي بدأت منذ عام 2011. شاب يبلغ من العمر الآن 28 سنة. بدأ نشاطه في فيسبوك مع اندلاع ثورات الربيع العربي، يقول: “كنت متحمسا للتعرف على أكبر قدر ممكن من الأصدقاء والتواصل معهم بشكل يومي، بالاضافة إلى متابعة مستجدات الأخبار بشكل دائم والتفاعل مع القضايا اليومية التي يتم تناولها في فيسبوك. لقد أصبحت هذه المساحة الافتراضية بيتي الحقيقي الذي أعيش فيه، وتقلصت علاقاتي الاجتماعية الواقعية إلى درجة كبيرة. ولم يكن يهمني الأمر حينها. ولكن، مع مرور الوقت بدأت أشعر بأنني أتلاشى، وأنني لا شيء؛ لم أحقق شيء بقيمة تُذكر”. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. يضيف صدام بالقول:” كلما قرأت منشورا لأحدهم يتغنى بنجاحه، أو تمعني في صورة يُشاركها لإنجاز حققه؛ أشعر بضيق وإحباط وكأن العالم كله يحقق تقدما بينما أنا الوحيد متبلد ومتوقف في مكاني منذ سنوات”

الصحة النفسية في خطر!

ما سرده صدام لم يكن استثنائيا، او مجرد مشكلة شخص واحد. في الآونة الأخيرة، ومع سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي على سياق حياتنا اليومي، ركزت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية على دراسة العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والصحة العقلية والنفسية للمراهقين والشباب بشكل عام. وعلى الرغم من التباين الواضح في نتائج الدراسات المتعددة بما يخص إثبات وجود علاقة مباشرة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتأثير السلبي على الصحة النفسية، إلا أن أغلب الدراسات أشارت إلى وجود رابط وعلاقة واضحة بين التصفح اليومي الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي وزيادة أعراض الاكتئاب والقلق.
نشرت مجلة الجمعية الطبية الكندية في تاريخ 10 فبراير 2020 ورقة علمية بعنوان “أجهزة الموبايل، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والصحة العقلية للشباب” [1]خلصت إلى وجود أدلة من مجموعة متنوعة من الدراسات المقطعية والطولية والتجريبية تُظهر تسبب استخدام الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في زيادة الاضطرابات العقلية والميول للإضرار بالنفس وزيادة معدلات الانتحار بين الشباب، والتأثير الأكبر بين الفتيات.
وأشارت الدراسة إلى إمكانية تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على وجهة نظر المراهقين الشخصية لأنفسهم وعلاقاتهم الشخصية، من خلال المقارنة الاجتماعية والتفاعل السلبي بما في ذلك التنمر عبر الإنترنت. كما ذكرت الدراسة أن نسبة كبيرة من الشباب الذين يستخدمون الأجهزة الذكية والوسائط المتعددة بشكل كثيف يعانون من حرمان مزمن من النوم، إلى جانب الآثار السلبية التي طالت الأداء المعرفي والأكاديمي والاستقرار الاجتماعي والعاطفي.
ومع ازدياد حالة الإدمان على الأجهزة الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي بين المراهقين والشباب، ازدادت نسبة الحالات المرضية من المراهقين التي تصل للمستشفيات ومراكز الصحة النفسية. فطبقا لتقرير نشره المركز الكندي للإدمان والصحة النفسية فقد زادت نسبة المراهقين الذين أبلغوا عن تعرضهم لضغط نفسي من متوسط إلى خطير من 24% في عام 2013 إلى 34% في عام 2015 و 39% في عام 2017, بالتوازي مع زيادة نسبة الأطفال والمراهقين الذين دخلوا مراكز الصحة النفسية في عموم كندا بين عامي 2006 و 2014 مقارنة بانخفاض نسبة ذات الفئة العمرية إلى 14% التي دخلت المراكز الصحية لأسباب صحية أخرى[2]. كما يُذكر زيادة في نسبة الفتيات اللاتي وصلن المستشفيات لإقدامهن على إيذاء أنفسهن عن قصد إلى 110% حسب تقرير المركز الكندي للمعلومات الصحية[3].

قيمة الذات تذوب افتراضيا..

يتحدث الشاب صدام عن تأنيب ذاته وحسده للآخرين كلما رأى أو قرأ إنجازا لأحد أصدقائه في منصة فيسبوك. وشعوره بالفشل لعدم تحقيقه شيء مقارنة بهم، وهو نتاج طبيعي لنوعية المتحوى الذي ينشره مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يميل الأغلبية لنشر ومشاركة الأحداث الفرائحية فقط وبصورة مبالغ بها. ولكن كيف يحدث ذلك تقنيا؟
في الفيلم الوثائقي “المعضلة الاجتماعية the social dilemma”[4] الذي أنتجته نيتفلكس مؤخرا ولقى صدى واسعا. عُرض بقالبين: وثائقي تقليدي، وتمثيلي. يقوم مسؤولين سابقين في شركات كبيرة مثل فيسبوك وجوجل وتويتر وإنستغرام بسرد كيف يتم التلاعب بالمستخدمين، كما تم توضيح آلية التنافس بين الشركات للحصول على أكبر قدر ممكن من المستخدمين. كما لجأت هذه المنصات لتصميم نماذج لإبقاء مستخدميها فترة أطول في مواقعها. حيث يصبح المستخدم هو المنتج الذي يتم بيعه لشركات الإعلانات.
يتحدث “جارون لانير” وهو كاتب ومختص في علم البيانات ويُعتبر مؤسس مجال الواقع الافتراضي. يستفيض بشرحه أن المنتج الوحيد في وسائل التواصل الاجتماعي هو ذلك التغيير البسيط والتدريجي في سلوك وإدراك المستخدمين، حيث تقوم هذه الوسائل بتغيير طريقة تفكير المستخدم وطبيعته ونظرته عن ذاته عن طريق خوارزميات ترصد كل ما يقوم به وما يعجب به وماهية المحتوى أو الصورة التي يتوقف عندها وكم المدة التي يتوقف عندها. وبناءا على كل ما سبق من هذه المعلومات الدقيقة والكثيفة تقوم الخوارزميات باقتراح المحتوى الذي يظهر لك تلقائيا وكذلك الإعلانات[4]. ويستمر الفيلم في قالبه التمثيلي في إبراز مدى تأثر المراهقين بالصور التي يتم نشرها من مستخدمي انستغرام، الأمر الذي يشعرهم بعدم الثقة بأنفسهم أو بدرجة جمالهم.
في استطلاعين نُفذا على طلاب الجامعات الأميركية والألمانية على التوالي، وجد أن الطلاب الذين أمضوا وقتا أطول على منصة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كانوا أكثر ميلا للشعور بالحسد أو الإحساس بأن الآخرين في شبكاتهم الاجتماعية كانوا أفضل حالا منهم[5]. وقد اشتهر مصطلح FOMO” الخوف من الضياع” ويعرف على أنه تخوف منتشر من أن الاخرين قد يكون لديهم تجارب مثيرة حين يكون الشخص غائبا، حيث يتم ربطه بتزايد حالة القلق النفسي جراء استخدام الفايس بوك[6] .
وخلصت دراسة اميركية أخرى إلى أن قضاء أكثر من بضع ساعات في الأسبوع على وسائل التواصل الاجتماعي يرتبط ارتباطا سلبيا بالسعادة الداخلية والرضا عن الحياة وتقدير الذات، في حين أن الوقت الذي يقضيه الشخص في الأنشطة غير المرئية، كالعلاقات الاجتماعية الواقعية والرياضة والأنشطة الدينية والعمل مدفوع الأجر يرتبط ارتباطا إيجابيا بالصحة النفسية لدى المراهقين[7].

إدمان جديد يُضاف لعائلة الإدمان

يجيب صديقنا صدام على سؤال متى وكم المدة التي يقضيها بين أروقة وسائل التواصل الاجتماعي يوميا، بقوله: “ليس هناك وقت ثابت ومحدد؛ لكن أقصى مدة قد تصل إلى 8 ساعات يوميا، وغالبا ما تكون أثناء الليل”. وهو الأمر الذي جعل نومه مضطربا وغير ثابت.
أصبح إدمان وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة حقيقية ويتم دراستها كنوع من أنواع الإدمان المتعددة لما لها من تأثير سلبي على الصحة النفسية. فقد أظهرت العديد من الدراسات أن نسبة عالية من الشباب مدمنون على هواتفهم الذكية، لكن لا يوجد تعريف قياسي متفق عليه لإدمان الهاتف الذكي أو إدمان الإنترنت. استخدمت الدراسات تعريفات ومقاييس مختلفة؛ تختلف عن تلك التي تعتمد على معايير الإدمان السلوكي. فقد حددت مراجعة منهجية إدمان الإنترنت على أنه مرتبط بشكل خاص بإيذاء النفس أو السلوك الانتحاري بناءً على سبع دراسات دُعّمت باستطلاعات مدرسية[8]. فقد وجدت دراسة استشرافية لطلاب مراهقين في المدراس الثانوية في تايوان، على أن الشباب المصنف كمدمنين على الإنترنت لديهم خطر متزايد بشكل كبير لممارسة أنشطة تؤذي النفس أو ميول انتحارية أو كليهما معا عند إعادة تقييمهم بعد عام واحد[9] .
أما عن العلاقة التي تربط ما بين إدمان الإنترنت واضطراب النوم، وجد تحليل لبيانات المسح السنوي في الولايات المتحدة زيادة مفاجئة في نسبة المراهقين الذين لا يحصلون على قسط كاف من النوم. ففي عام 2015 كان أكثر من 40 % ينامون أقل من سبع ساعات معظم الليالي[10]. وأظهرت الدراسة علاقة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لأكثر من ساعتين أو أكثر في اليوم وعدم النوم الكافي. وبالمثل؛ وجد تحليل لبيانات المسح في اونتاريو –كندا أن 63.6 % من أصل 5242 طالبا تتراوح أعمارهم بين 11 و 20 عاما ينامون أقل من الموصى به. كما أكد التحليل وجود علاقة بين الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي وعدم الحصول على القدر الكافي من النوم[11].

شباب الربيع العربي.. هل انقلب السحر على الساحر؟

لعل بداية زخم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط كان مع اندلاع الربيع العربي حيث لعب “فيسبوك” بالأخص، بالاضافة إلى تويتر، دورا مهما في إشعال الثورات التي انتشرت في الكثير من الدول العربية. واستخدم شباب الثورة هذه المنصات للتعبير عن آرائهم السياسية والتحشيد للمظاهرات والاعتصامات. وكان للتفاعل الدائم والكثيف مع سيل الأخبار والأحداث اليومية وما لحق الثورات من انتكاسات تأثيرا سلبيا على الصحة النفسية لأغلب الشباب الناشطين في هذه المنصات. وهو ما يُبينه صديقنا صدام، إذ وضّح مدى تأثره النفسي من متابعة الأخبار السلبية وانخراطه في النقاشات السياسية، الأمر الذي جعله في قلق دائم وخوف من الملاحقات الامنية؛ بالإضافة إلى شعوره بأنه دائم الانسياق للرأي العام المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وذلك لا يجعله يتبنى أفكارا أصيلة.
ومع ذلك لا تتوفر الكثير من الأبحاث والدراسات التي تتناول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية للشباب العربي المنخرطين في الأحداث السياسية رغم أنها من أكثر المناطق في العالم التي تلعب فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورا سلبيا في ازدياد الصراع ونشر الكراهية، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على الصحة النفسية لأغلب روادها. في نهاية المطاف، نجد أن وعي المُستخدم هو أكثر ما يُمكن أن يُعول عليه لحمايته نفسيا، وعقليا. فلا يُمكن إنكار المكانة الأساسية التي تلعبها هذه المنصات في حياواتنا بل وعلاقاتنا، وأصبح الشعور يُعبَر عنه بلمسة على شاشتك و”ريآكت” تكتفي بالتفاعل به افتراضيا لتضحك، تحزن، تغضب؛ بينما واقعيا: جلمود صخر بلا تعبير.. لكن علينا التفكير، ما الذي ستطاله منا بعد؟

“ھذا التقریر نشر كجزء من مشاركة الكاتب فى ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع “الصحافة والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وھو أحد مشروعات معھد جوتة الممولة من قبل وزارة الخارجیة الألمانیة”.

المراجع

[1]- Smartphones, social media use and youth mental health, Elia Abi-Jaoude, Karline Treurnicht Naylor and Antonio Pignatiello ,CMAJ February 10, 2020 192 (6) E136-E141.
[2]- Boak A, Hamilton HA, Adlaf EM, et al. The mental health and well-being of Ontario students, 1991–2017: detailed findings from the Ontario Student Drug Use and Health Survey (OSDUHS). CAMH Research Document Series No. 47. Toronto: Centre for Addiction and Mental Health; 2018.
[3]- Care for children and youth with mental disorders [report]. Ottawa: Canadian Institute for Health Information; 2015.
1-Smartphones, social media use and youth mental health, Elia Abi-Jaoude, Karline Treurnicht Naylor and Antonio Pignatiello
CMAJ February 10, 2020 192 (6) E136-E141; DOI: https://doi.org/10.1503/cmaj.190434
[4]- The Social Dilemma, Documentary, Netflix,2020.
[5]- Krasnova H, Widjaja T, Buxmann P, et al. Why following friends can hurt you: An exploratory investigation of the effects of envy on social networking sites among college-age users. Inf Syst Res 2015;26:585–605. doi: 10.1287/isre.2015.0588.
[6]- Przybylski AK, Murayama K, DeHaan CR, et al. Motivational, emotional, and behavioral correlates of fear of missing out. Comput Human Behav 2013;29:1841–8. doi: 10.1016/j.chb.2013.02.014.
[7]- Twenge JM, Martin GN, Campbell WK. Decreases in psychological well-being among American adolescents after 2012 and links to screen time during the rise of smartphone technology. Emotion 2018;18:765–80.
[8]- Marchant A, Hawton K, Stewart A, et al. A systematic review of the relationship between internet use, self-harm and suicidal behaviour in young people: the good, the bad and the unknown [published erratum in PLoS One 2018; 13:e0193937]. PLoS One 2017;12:e0181722.
[9]- Pan P-Y, Yeh C-B. Internet addiction among adolescents may predict self-harm/suicidal behavior: a prospective study. J Pediatr 2018;197:262–7.
[10]- Twenge JM, Krizan Z, Hisler G. Decreases in self-reported sleep duration among U.S. adolescents 2009–2015 and association with new media screen time. Sleep Med 2017;39:47–53.
[11]- Sampasa-Kanyinga H, Hamilton HA, Chaput J-P. Use of social media is associated with short sleep duration in a dose-response manner in students aged 11 to 20 years. Acta Paediatr 2018;107:694–700.
expanded image