الجُرْهُمِيُّ الأخير
( سيرة السَّدّ ) . شعر / طارق السكري
تأبَّط لحنًا
وذكرى تُلحُّ عليه بباب المطارِ
وريحُ الشتاءِ العتيَّة
وسربُ حمامْ
يجوبُ السماءْ
شريداً شريداً .
وكان العواءْ
شديداً .
عواءُ المدافع كان شديداً
يدمدمُ في ساحةِ الذاكرةْ
وكان الظلامْ
ينزُّ دماً ، وخيالُ المصابيحِ كان غريباً
يعربد فوق ضريح الجدارْ ..
ويسكب عبرة !!
وكان صراخ النساء كثيفاً ..
عميقاً يزلزل عرش السكونْ
وأنياب غول .. وأقدام نارْ
ووجه مغول .. وزند دمارْ
وأثداء جنيةٍ عاهرة .. وأجفان عاصفةٍ ساهرة
وفئرانُ موتٍ .. وسيلُ العَرِمْ
على إثرها عاد كي ينتقمْ
أطل علينا بوجهٍ جديدْ
وعهدٍ جديدْ .. قديمٍ .. جديدْ
وعادت كوابيسُ عهدِ التشرُّدِ
عادت لتلقي علينا
حكايا المنافي الشقيةْ
وذكرى الرحيلْ
وفئرانُ موتٍ .. وسيلُ العَرِمْ
وأهوالُ عادت لكي ينتقمْ
ويسحل في صلصلاتِ الصحارى
وجوهَ القبائلْ
ويفتضُّ في قهقهات السكارى
عفافَ السنابل
وأصواتُ دمدمةٍ عنجهية
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
هريرُ كلابٍ ووقعُ فؤوسْ
وتشدو قنابلْ
فيسقط جرحى على ساعديه
وطيف الضحايا على دمعتيه
وتجري رؤوسْ
وراح يُسدِّد فوق الدمار الذي بالمدينةِ ..
حلّ قريباً ..
رصاصةَ نظرة
وكانت بقايا أغاني الصبايا وهنَّ يطفن روابي الأصيلْ
تنامُ بمعطفهِ المهترئ
وبعض روائح بنٍّ عتيقٍ .. وعطرُ رسائلْ
تنام بمعطفهِ .. تختبئ
وحيناً تطلُّ عليه .. تطل من الذاكرة
موسيقى كدمعةِ أمٍّ رؤومْ
تطلُّ عليه بباب المطارْ
: وداعاً وداعاً بقايا النهارْ
وسربُ حمامٍ بخوفٍ ورعبٍ يجوبُ السماءْ
وكان السفرْ
*
تأبَّطَ حزناً
وأسرى به الشوق ليلاً إلى عرش مقهى .. قديم
بأرضٍ غريبةْ
صغار الأنوف
تراقبه هلوساتُ العيونْ
وتفتح باباً إلى البحرِ
تسأله من تكون ؟
ملابسهُ رثَّةٌ .. والحذاءْ
كتمثال ريحْ
يئنُّ يصيحْ
وليست تريد جواباً ولكنه عبث الطيبينْ !
وتنشب أظفارها الأسئلة
وأصداءُ صَحْرا
وتسحقه روحها المثقلة
ورنَّاتُ ذكرى
وأصواتُ يومَ تنادى الغجرْ
لنهب المدينةْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
تُدُمْ .. دُمْ .. دُمْ
وأنياب غول .. وأقدام نارْ
ووجه مغول .. وزند دمارْ
وأثداء جنيّةٍ عاهرة .. وأجفان عاصفةٍ ساهرة
وفئرانُ موتٍ .. وسيلُ العَرِمْ
وأهوالُ عادت لكي تنتقم
وراح يمدُّ يديهِ بعيداً
وراح يقول :
رأيناهمُ في خيال الشجرْ
وهم قادمون
فؤوسٌ .. وأشلاء ذكرى عروسْ
تناثر في كل روضٍ دمُ
سرى طاهراً في عروق الغصونْ
وحتى عِشاشُ الطيور
سرى الذعرُ فيها ونال مداها العُبوسْ
جحاظ العيونْ
غلاظ النفوسْ
وريح تفوح كأنتن ريحْ
تلف كحبلٍ متينٍ بها رائعاتِ الطلوحْ
بكفِّ صليبٍ .. ونار مجوسْ
وأنياب غول .. وأقدام نارْ
ووجه مغول .. وزند دمارْ
وأثداء جنِّيةٍ عاهرة .. وأجفان عاصفةٍ ساهرة
تنافض في ذاكرات البكور
( حديدٌ حديدْ ..
حديدٌ عتيقْ )[1]
فلا فاح زهرٌ .. ولا هلّ نورْ
وغادر روحُ الحياةِ الشجر
وأصبح جيدُ “السَّعيدةِ “خِلْواً
كحسناء كانت .. أميرة
رماها القدرْ
وصارت تمرُّ بكلِّ المواخيرِ
عَطْلى .. فقيرة
وطفلٌ صغيرْ
يقول لجدّتهِ : قادمون
وتخرسه : يابني انتبه
أجل قادمون
يكاد السرير
برعبِ زفيريهما أن يطير
أجل قادمون !
وأصداءُ من سحلوهمْ هناك
ترجُّ المدى
بقعقعةِ النار والأسلحة
وهم يركزون رؤوس البنادقْ
على الأضرحة
هناك هناك بتلك الحرائقْ
وتمطر نيرانها الأسئلة
وماذا تريد وماذا تكون ؟
*
تأبَّط خيلَ الخيالِ
وأشعلَ بين الأناملِ أفْقَ الدروبْ
وطافَ المقابرْ
وألقى السلامَ على قبرِ كلِّ شهيدٍ وثائرْ
وحين استدارْ
رأى ضوء نارْ
وكان خريرُ دماءٍ
وأصواتُ قافلةٍ في الرِّياحْ
تخبُّ .. بلا قربةٍ أو سلاحْ
: ( إلى أين ؟ هذا بذاك اشتبهْ ؟) [2]
وعشرون قافلةٍ من بعيد
تلوحُ ..
وربُّ الغبارِ العنيدْ
على الأفقِ يرنو بطرفٍ حديدْ
( حديدٌ .. حديدْ )[3]
إلى أين تمضون دون امتداحي ؟
أنا سيد البيدْ ! أين العبيد ؟!
وتضطرب الأرضُ من حولنا
ويعلو الصراخُ :
أيا سيد البيد جارت علينا الظروفُ
وكنا ملوك الزمانْ
وقد قدَّر اللهُ أن نتمزَّقَ
تحت سياط الأسى والهوانْ
أغارت علينا سيولُ العرِمْ
أيا سيد البيد[4] إنا حفاة
أيا
سَيَّـ
دَ الْـ
بِيـ
دِ
إنَّا
عُـ
ر
ا
ة
ولكنه تاهَ كِبْراً .. وطااااارْ
ومن قال أن الغلاة القساة
لنا يسمعون ؟
وحين استفاق الخيال
وأيقن أن هواهُ عليلٌ .. هزيلْ
تبخَّر فوق السرير الكئيبْ
وأغلق بين يديه الدفاترْ .
*
إلهي ..
إلى أيِّ أرضٍ أهزّ جناحي وكلُّ بلادٍ سفر ؟!
على أيِّ صدرِ كمانٍ حزينٍ
أوقِّعُ رأسي
وكلُّ مغنِّيةٍ لي سَهَرْ ؟!
صبرتُ كأيُّوبَ يومَ دَهَتْهُ ليالي العناء
فجوعٌ وقهرٌ .. وعريٌ وسهدٌ .. وداءٌ عياءْ
ألستَ تراني مَللتُ ، تعبتُ ، ونُحتُ ، وتُهتُ ، وجعتُ .. وضقتُ
وأنت اللطيفُ بكل البشر ؟!
وأنت الرؤوفُ بكل البشر ؟!
أحاول أن لا أوفِّرَ حباً
وأنفثَ كلَّ الذي في دمي
بريق القصائد ، جدولَ ذكرى ، وروعة لقيا
أحاول أن لا أوفِّرَ شوقاً
وأطلقَ كلَّ الذي في فمي
من أغانٍ ورؤيا
أحاول أن لا أكون حزيناً بِقدْرِ انْطفائي
فقد يُورقُ الصخرُ يوماً نخيلاً
وقد يهتك الشعرُ حُجْبَ الوَهنْ
ويحيا وطنْ !
*
إلهي
تأبَّطتُ صحراءَ روحي وشاطئَ ليلْ
أحاول أن لا أريكَ انْكساري
وأنْ أتَزَيَّا بِزِيِّ الشَّفقْ
وأخفي دمي
فخصمي يقولُ احْمرارُ المدادِ
وقومي يقولون : لونُ الأرقْ .
*
إلهي ..
إلهي ..
تأبَّطني في الطريقِ السرابُ
وظلَّ وأضحى وباتَ وأمسى
وضلَّ السرابُ طريقَ الرجوعْ
وصار يناشدني : أين أنتَ ؟!
أنا .. مِن هناك ، تعال إليّْ
أمدُّ يديَّ ، يمدُّ يديهِ
كلانا تتداعى
ويحنو عليَّ وأحنو عليه
كلانا تلاشى
كلانا تأبَّطَ شَكَّاً وخوفا
وحلماً وزيفا
وفئرانُ موتٍ .. وسيلُ العَرِمْ
على إثرها عاد كي ينتقمْ
تلاحقنا منهُ أشباحُ كهفٍ
وأطيافُ بحرٍ ، وأرواح قبرِ
لتطوي بلادي وأحلامَ فجري
وضلَّ السرابُ طريقَ الرجوعْ
سماءٌ عليلةْ
ولست أراهُ ، وليس يراني
( وداعاً وداعاً )
موسيقى كدمعةِ أمٍّ رؤومْ
وهلَّ المطرْ
*
بلادي .. وأكوامُ قتلى وجرحى
بلادي .. وذاكرتي في ارتعادِ
كلابٌ على التلِّ تنهش بعضاً
عليها يحومُ .. يحومُ الطنينْ
ودمدمةٌ في نباح الكلابِ ترجُّ الصدى ..
وتثير الحريقْ
وصمتُ الجبال مخيفٌ
وصمت الضحايا محيطٌ بكلِّ طريقْ
بلادي .. !
وأعماقُ ذاكرتي في ارتعادِ
أنادي ..
وصوتٌ يناشدني : من تنادي ؟
ويهرب مني بعيداً بعيدا
هنالك ما بين تلك البوادي
هنالك حيث الظلام بصمتٍ يلفُّ الحدودْ
وحيث بلادي كطير جريحٍ بأيدي الجنودْ
أعيدوا بلادي
- بلادك نكهةُ بنٍّ .. ولكنها أخمدتها العوادي
أعيدوا بلادي
- بلادك نغمةُ شادٍ .. ولكنها أخرستها الأعادي
أعيدوا بلادي
- بلادك جارةُ غيمٍ .. ولكنها مزّقتها الأيادي
حفاةٌ وينتهبون البشرْ
حفاة ويعتقلون الشجر
حفاة ويغتصبون القمر
حفاة بكلِّ غباءِ القرونْ
بتاريخ أمتنا يعبثون
حفاة بأعصابنا يلعبونْ
بلادي .. وأكوامُ قتلى وجرحى
ترصِّعُ هامَ المدينة
وروحٌ ترفُّ عليها
وتنظر نحوي كذكرى حزينة
تصولُ وتخفق بي وتجولْ
تربِّت روحي .. تقولْ
: بقصف المنايا .. وهولِ الرعودْ
برغم حرائقهم سنعودْ
برغم حرائقهم سنعودْ
لأني أنا الجُرْهُمِيُّ الأخيرْ
فصوتي زؤامٌ وطرفي سعيرْ
وفي جلجلاتِ الخطا مهرجانُ الرّْ
رَبيعِ وعودةُ يومٍ مطيرْ
ووادٍ خصيبٌ .. وسّدٌّ منيعٌ
وفجرٌ جديدٌ .. وروحٌ نضيرْ
تأبّطتُ لحناً .. بقايا من الأمسِ
ترقص أصداؤها في الصدورْ
على شطِّها كان مَنْ قد مَضَوْا
يقولون عني الكلامَ الكثيرْ
وتمضي الفصولْ
وتأخذ دورتها في الزمنْ
وتأتي مواسمُ أخرى جديدةْ
وتلبس تلك السهوبُ النضارْ
ويهوي ظلامٌ ويعلو نهارْ
ويخفق صوتُ الضحايا البعيدة
بتلك الشجرْ
وتنشب أظفارها في الغجرْ
وتأخذ دورتها في الزمنْ
ماليزيا 20 / 2 / 2016
[1] مقطع للسياب
[2] مقطع للبردوني
[3] مقطع للسياب
[4] وردت هذه العبارة ( سيد البيد ) لدى الشاعر محمد الثبيتي