عندما نتحدث عن الأدب اليمني في خصم الثورة هذا يعني أننا سنتحدث عن بعض أقسام الأدب بشكل عام ، هذه الأقسام التي كانت لها إسهامات في إشعال فتيل الثورة وقيامها ورسم الخطوط العريضة لها ، ولكننا سنخصص مساحة كبرى من الحديث للشعر لأن باقي أقسام الأدب في الحقيقة لم تكن حاضرة بما يكفي كالحضور الشعري، ومع ذلك فقد لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل وعي الشعب اليمني وتحفيز الثورة ضد الاستبداد الإمامي والاحتلال البريطاني. كان هذا الأدب جزءاً لا يتجزأ من النضال الوطني، حيث أسهم بشكل فعّال في التحريض على التغيير والدعوة إلى التحرر. لقد تمكن الأدب من توثيق الواقع المعاش، وعكس آمال الشعب وطموحاته في الحرية، واستطاع أن يمهد الطريق للثورة من خلال القصيدة والرواية والقصة.
إن الخطوط العريضة للثورة اليمنية لم تتشكل فقط من خلال النضال المسلح والتغيير السياسي، بل كانت الكلمة الثورية – سواء في الشعر أو النثر – عنصراً مهماً في توجيه الثورة وتحديد معالمها الوطنية والعربية والإنسانية. والأدب اليمني في تلك المرحلة كان يتمحور حول فكرتين أساسيتين: التحريض على التغيير وترسيخ الثورة بعد قيامها. كانت هذه السمات واضحة في الأدب الثوري، الذي أسهم في إشعال نار الثورة وتوجيه مسارها نحو تحقيق أهدافها الكبرى.
التحريض على الثورة والتغيير
لقد انطلق أدب الثورة الشعري مواكبا المأساة، محرضا على الخروج من سجن العزلة وكسر القيود التي علاها الصدأ المتراكم من عصور، مستشرفا المستقبل، محركا روح التمرد، نافخا روح البسالة، موجها بوصلة الجماهير نحو التحرر والانعتاق من أسر التخلف والإذلال والظلم والطغيان السلالي العنصري الكهنوتي الذي أهلك الحرث والنسل.
منذ بداية القرن العشرين، كانت اليمن تعيش في ظل نظام إمامي مطلق في الشمال، بينما كان الجنوب تحت الاحتلال البريطاني. هذه الأوضاع المزرية دفعت الشعراء والأدباء إلى استخدام الكلمة كسلاح للتعبير عن معاناة الشعب، والتحريض على التمرد والثورة. كانت هذه المرحلة تمثل ثورة أدبية في حد ذاتها، حيث تحول الأدب من كونه وسيلة للتعبير عن الذات إلى أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي.
ومن أهم شعراء الثورة اليمنية وأصفاهم روحاً وشعراً، وأشدهم إحساساً بضرورة التغيير، وأعني به الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري صاحب هذا الصوت الوطني العميق:
ناشدتك الإحساس يا أقلام
أتزلزل الدنيا ونحن نيام
ما لليمانين في نظراتهم
بؤس وفي كلماتهم آلام
جهل وأمراض وظلم فادح
ومخافة ومجاعة وإمام
والناس بين مقيدٍ في رجله
قيد وفي فمه البليغ لجام
أو خائف لم يدر ما ينتابه
منهم أسجن الدهر أم أعوام.
والاجتماع جريمة أزلية
والعلم إثمٌ والكلام حرام
هذا شعر يحرك الأحجار فضلاً عن البشر، ويجعل كل شيء في اليمن يثور ويقاوم العهد الظلامي الذي كان يحكم البلاد ويسخر من الملايين. ولم يكن هذا الشعر أنيناً ولا نواحاً بل كان الإشعاع الذي اتسعت رقعته ووصلت أنواره إلى أقصى قرية من قرى البلاد فضلاً عن المدن. وعلى الرغم من الكتابات الكثيرة التي حظي بها هذا الشاعر الكبير فما يزال شعره، والسياسي منه بخاصة بحاجة إلى دراسات ومقاربات تحليلية للغته بصفة عامة، ولدلالاته بصفة خاصة، ولقدرة الشاعر على إيجاد مساحة شاسعة من التواصل والتفاعل مع الجمهور، أنه شاعر ذو قضية بل هو شاعر القضية.
ومن المهم القول بأن هذا الشعر الثوري استحوذ على مشاعر الناس في الوطن، وحٌظي بكثير من الاهتمام في الأدب والسياسة على وجه الخصوص، كما وصل إلى صفوف الطلاب النابهين في المدارس الذين كانوا يرددونه في الخفاء، وساعد على تكوين وجدانهم الوطني. ولو استطاع قارئ اليوم أن يعود بذاكرته إلى زمن ظهور هذه القصيدة، التي اجتزأت بضعة أبيات منها لاستطاع أن يتبين أثرها على الشعب، فقد نجحت في أن تصور بدقة متناهية المعاناة الواقعية لليمنيين تحت حكم الطغيان، وفتحت الباب واسعاً لنبش الأحاسيس الدفينة في الصدور، وعملت على استثارة أقصى ردود الأفعال المطلوبة للتغيير، ولا ننسى أن القصيدة بدأت بمخاطبة الأقلام في إشارة ضمنية إلى الكتابة بعامة وإلى الأدب بخاصة، هذا الذي عليه واجب شرح ما يعاني منه الناس وما يطمحون إلى تحقيقه.
ولدارس القصائد الثورية لدى الشاعر محمد محمود الزبيري أن يدرك أبعاد التدرج في ثورته الشعرية من التشاؤمية الصارخة إلى التقريرية المتفائلة التي تبشر بالنصر العظيم:
الملايين العطاش المشرئبة
بدأت تقتلع الطاغي وصحبه
سامها الحرمان دهراً لا يرى الغيث
إلاَّ غيثه والسحب سحبه
لم ينل جرعة ماء دون أن
تتفاضاه بحرب أو بغضبه
ظمإت في قيده وهي ترى
أكله من دمها الغالي وشربه.
ولنتوقف عند هذه الصرخة التي سبقت الثورة بأربع سنوات فقط، وجاءت ضمن تحية باسم أحرار اليمن إلى أحرار العراق، الذين تخلصوا في لحظة سعيدة من كابوس الملكية المرتبطة بالاحتلال البريطاني، وبتاريخ طويل من العمالة، والاتصالات المباشرة وغير المباشرة. لقد أعطت ثورة 14 تموز 1958م دفعة للثائرين العرب في جميع أقطار الوطن العربي، وشكلت إنذاراً بقرب زوال الأنظمة الملكية بوصفها أوكاراً للتآمر على الأمة العربية وأبنائها في السر والعلن:
صيحة الشعب.. في بلاد الرشيد أشعليها ناراً وثوري وزيدي
إزحفي كالطوفان يا ثورة الشعب إلينا ودمدمي كالرعود
طهري جونا من الموت والصمت ... وهزي لنا بقايا لحود
إخوة نحن في القيود فهيا لنكن إخوة بخلع القيود
وما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر الذي كتب مثل هذا الشعر لم يكتب القصيدة الثورية فقط، بل رسم الخطوط العريضة للثورة وأسس للشعر الثوري كما ينبغي أن يكون مواجهاً للطغيان وتنويراً للشعب وارتقاءً بوعيه الوطني إلى درجة تجعله قادراً على مقاومة كل صنوف الظلم بما فيه الظلم الذي كاد يكون إرثاً تاريخياً وقدراً لا فكاك منه، لقد ساق الزبيري في قصائده ما لا يحصى من الأمثلة على التعذيب والقسوة وما عاناه الشعب من إذلال وامتهان، ووجب عليه أن يتحرر ويفيق.
لقد أنتجت المرحلة الممتدة من أوائل أربعينيات القرن المنصرم إلى أوائل ستينياته شعراً نضالياً ينضح بالتحريض والتبشير والتنوير، التنوير بالحرية وبالحقوق السياسية والاجتماعية. وفي قصائد أقرب ما تكون إلى المناشير الرامية إلى صياغة لأهداف سياسية في وضوح، كما هو الحال مع قصائد الشهيد زيد الموشكي، الذي لم يكن يهمه سوى الوصول إلى الجمهور ولمس همومه والتعبير عن قلقه ومعاناته، وكان حريصاً على أن يخاطب الحاكم الطاغية مباشرة مهدداً له ومتوعداً:
ستقرع بعد اليوم من ندمٍ سنا
إذا ما فؤاد الشعب باح بما جنّا
ولبى اُباة الضيم أصوات هاتف
بهم أسمعت أصواته الأنس والجنا
ينادي بأعلى صوته قائلاً لنا
ألا استيقظي يا أمة اليمن الوسنى
لقد طال هذا النوم حتى كأنكم
أوى منكم الأقصى إلى الكهف والأدنى
ولكنه كهف شديد ظلامه
مخوف وأهل الكهف نالوا به أمنا.
يستمر أدب الثورة وتتوهج قصائده الملتهبة ويعّدُ الشهيد الموشكي شاعراً سياسياً، وشاعر مقاومة بامتياز يسعى في قصيدته إلى تحقيق البنية التي تؤكد تأثيرها وثوريتها بغض النظر عن افتقارها إلى الأبعاد الفنية وعجزها عن التحليق في سماوات الخيال، وكان وقعها على الحاكم شديداً وقاصماً، واستطاعت أن تأخذ طريقها إلى قلب القارئ وتحلّق في وجدانه.
وفي هذه الفترة من أربعينيات القرن المنصرم التي ظهرت فيها القصائد الثائرة للزبيري والموشكي، لفتت الانتباه قصيدة لشاعر شاب هو لطفي جعفر أمان يرسم فيها أوضاع اليمن بشعر فيه الكثير من الحزن والألم والثورة والكثير من التأمل الحائر:
جار الزمان عليك مستور الخفا
لا خالياً أبقى.. ولا مأهولا
ولقيت من عنت الولاة وعنفهم
ما راع قلبَك جائراً ومهيلا
جلدوا العدالة وهي تقطر بالدما
في كل سجنٍ روع الباستيلا
لهفي على تلك المقاصف روعتْ
وغدا البكا عن الغناء بديلا
وعلى شباب شط عن أوطانه
وقضى الحياة تلفتاً.. وذهولا
وعلى رجال في الجهالة نومٍ
قطعوا الزمان جهالة وخمولا
قد ما مضى ركب الشعوب وركبهم
يرتد خلفاً للعصور الأولى.
وكما كان للشعراء والأدباء اليمنيين إسهامات سبتمبرية نضالية ضد الإمامة في الشمال كانت لهم إسهامات أكتوبرية ودور بارز في الوقوف في خنادق النضال ضد الاحتلال والطغيان البريطاني من خلال إبداعاتهم الأدبية وقصائدهم المتأججة بالمشاعر الوطنية. ولقد قدموا دعمًا قويًا للثورة عبر قصائدهم التي بشرت بالاستقلال والحرية، وعبّرت عن إرادة الشعب اليمني الصلبة في مواجهة الظلم والاستعمار. هذه القصائد لم تكن مجرد كلمات، بل كانت حاضرة على أرض الواقع، تُلهب مشاعر المقاومين وتحفزهم للاستمرار في كفاحهم.
فنجد أبا الشهيد الزبيري حاضرا ومؤثرا أيضا في مسيرة النضال اليمني ضد الاحتلال، فقد كان الزبيري صاحب رؤية شعرية متفجرة بالروح الثورية، وقصيدته الشهيرة "صحية البعث" كانت صرخة تحدٍ للاستعمار البريطاني، وتعبيرًا عن الإرادة اليمنية الحرة في استعادة الكرامة والحرية. يقول الزبيري في هذه القصيدة:
سَجِّلْ مكانَك في التاريخِ يا قلــمُ
فهـا هـنا تُبـعَثُ الأجيــالُ والأمـــــــمُ
هنا القلوبُ الأبيَّاتُ التي اتـّحدتْ
هنا الحنانُ هنا القربى هنا الرحِــــــمُ
كانت هذه الأبيات تعبر عن بداية عصر جديد من الكفاح الوطني ومسارا جديدا للثورة، حيث تمثل اتحاد الشعب في مواجهة الطغاة والاستعمار. وبهذا نجد أن شعر الزبيري كان دائمًا يحمل طابع التحدي والمواجهة.
وأما الشاعر عبد الله البردوني فإنه لم يكن أقل تأثيرًا، إذ قدم قصائد ثورية كانت دعوة صريحة للشباب للتصدي للمستعمر. قصيدته "شباب الفدا" كانت إحدى هذه القصائد التي حفزت الشباب على الانتفاض والمواجهة، حيث يقول فيها:
أفِقْ وانطلقْ كالشُّعاعِ النَّدِي
وفجِّرْ من الليلِ فجرَ الغدِ
وثِبْ يا ابنَ أمِّي وثوبَ القضا
على كلِّ طاغٍ ومستعبدِ
البردوني من خلال قصائده كان يدعو الشباب اليمني إلى الإيمان بقضيتهم الوطنية والتحرك بشجاعة نحو تحقيق استقلالهم وحريتهم.
وكانت شرارة الثورة في جبال ردفان هي البداية الحقيقية لثورة 14 أكتوبر. والشاعر عبده عثمان كان أحد الأصوات التي بشرت بهذه الثورة عبر قصائده الأولى. في إحدى قصائده الشهيرة يصور فيها مشاعر الثوار وهم يستعدون لمواجهة المستعمر، حيث يقول:
كانت الساعة لا أدري
ولكن..
من بعيد شدني صوتُ المآذن
ذهلَ الصمتُ تداعت في جدارِ الليلِ ظلمةٌ
وتمطَّى في دمائي حبُّ شعبٍ
وأطلت عشرات الأحرف الحمراء.. أسراب القوافي
مد بحر لا يحدُّ
قاعه قلب ووجد
صب فيه من زوايا الأمس حقد
أبدا لو تستريح
لم أسله.. لم أقل من أي غاب قد أتيت
أي أنفاس حملت
ما على ردفان بحري
إن إخواني وأهلي
أذرع تحتضن النور وأرواح تصلي
في طريق الراية الخضراء والشمس الأسيرة
وربيع ذات يوم، كان في شبه الجزيرة
ترضع الدنيا شذاه وعبيره
هذه الأبيات كانت تعبر عن روح الثورة التي اشتعلت في قلوب اليمنيين، وتنبض بالعزم على مقارعة الاحتلال مهما كانت التضحيات. وعندما اكتملت الثورة وتحقق النصر في الثلاثين من نوفمبر 1967م، خرج الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان ليعلن للعالم تحرير اليمن واستقلاله من الاحتلال البريطاني. قصيدته "بلادي حرة" كانت تسجيلًا شعريًا لهذا الحدث التاريخي:
طهارةَ التراب:
على أرضنا.. بعد طول الكفاح
تجلى الصباح.. لأول مرة
وطار الفضاء رحيباً
بأجنحة النور ينساب مرّة
وقبلت الشمس سمر الجباه
وقد عقدوا النصر من بعد ثورة
وغنى لنا مهرجان الزمان
بأعياد وحدتنا المستقرة
وأقبل يزهو ربيع الخلود
وموكب ثورتنا الضخم إثره
تزين أكليل آلاف زهرة
وينشر من دمنا الحر عطره
ويرسم فوق اللواء الحقوق
حروفاً.. لأول مرة
بلادي حرة.
عبر هذه الأبيات، عبّر لطفي جعفر أمان عن الفرحة العارمة بالنصر والتحرر، مع التأكيد على أهمية الوحدة الوطنية التي تحققت بعد عقود من النضال والكفاح.
وأما عبدالله هادي سبيت فقد كان صوتًا آخر للثورة، حيث دعا الشعب إلى حمل السلاح ومواجهة الاحتلال في قصيدته "يا شاكي السلاح"، التي قال فيها:
يا شاكي السلاح شوف الفجر لاح
حط يدك على المدفع، زمان الذل راح
ولو تأملنا جيدا في هذه النصوص النضالية الثورية للأدباء والشعراء اليمنيين سنجد أن هناك انفتاح على العالم العربي وتفاعل مع التجارب الأدبية والإبداعية في الدول المجاورة. لقد ساعدت الثورة اليمنية على تحرير الأدب اليمني من العزلة التي كانت تفرضها الأنظمة السابقة، وأصبح الأدباء اليمنيون جزءًا من الحركة الأدبية العربية الكبرى.
لقد تأثر الشعراء اليمنيون بالتجارب الثورية في العالم العربي، مثل الثورة المصرية في 23 يوليو 1952 والثورة الجزائرية. هذا التأثر كان واضحًا في القصائد التي كتبت في سنوات ما بعد الثورة اليمنية، حيث ظهرت لغة جديدة وصور أدبية مثيرة تمزج بين الواقعية والرمزية.
ظهور أشكال جديدة في الكتابة الإبداعية كسرت القيود التقليدية
الثورة اليمنية 26 من سبتمبر 14 من أكتوبر لم تؤثر فقط على موضوعات الأدب، بل أيضًا على أشكاله. لقد شهد الأدب اليمني بعد الثورة تحررًا من القيود التقليدية التي كانت تكبل الشعر والنثر. ظهرت قصيدة التفعيلة والشعر الحر، وخرجت القصيدة اليمنية من الشكل التقليدي إلى فضاء أوسع وأشمل.
على سبيل المثال، الشاعر المناضل عبده عثمان كان من الشعراء الذين أدخلوا الرمزية والأساطير في أدب الثورة. في إحدى قصائده، يستخدم الرموز والأساطير ليعبر عن واقع اليمن وتطلعاته:
"يا من يغادر القبور
يا شعبي الذي يثور
لا بد أن يعود "ذو يزن"
وثائرون يهتفون في "عدن""
القصيدة هنا ليست مجرد تعبير عن الواقع، بل هي استدعاء للرموز الوطنية والتاريخية لتحفيز الجماهير على التمسك بالثورة والمضي قدمًا نحو التحرير.
لم بتوقف أدباء الثورة وشعرائها بعد نجاح الثورة وقيام الجمهورية بل واصلوا نضالهم الأدبي في رسم الخطوط العريضة للثورة بالاستمرارية والتجدد لقد فتحت الثورة آفاقًا جديدة للأدب اليمني، وساعدته على التحول من التعبير عن الماضي إلى استشراف المستقبل. أدب ما بعد الثورة تميز بالتنوع والانفتاح على العالم، كما أنه استمر في تقديم قضايا جديدة تتعلق بالتحرر الاجتماعي والسياسي.
وخير مثال على ذلك الشاعر الكبير عبد الله البردوني، الذي يعد من أبرز شعراء ما بعد الثورة، عبّر عن هذه التحولات في قصائده التي تناولت قضايا الحرية والعدالة. في قصيدته الشهيرة:
"لن يستكين ولن يستسلم الوطن
توثب الروح منه وانحنى البدنُ
أما ترى كيف أعلا رأسه ومضى
يدوس أصنامه البلها ويمتهن
وهب كالمارد الغضبان متشحاً
بالنار يجتذب العليا ويحتضن"
هذه الأبيات تعكس الروح الثورية المستمرة، حيث يصر البردوني على أن الثورة ليست مجرد حدث مؤقت، بل هي حالة دائمة من النضال لتحقيق الأهداف الكبرى، مثل التحرر الكامل والاستقلال الذاتي. يعبر الشاعر هنا عن إصرار الشعب اليمني على التمسك بمبادئ الثورة، والتأكيد على أن الثورة يجب أن تظل في حالة من التجدد والتطوير الدائم.
البردوني، بقدرته على استخدام الرمزية والتعبير الشعري المبتكر، كان يسعى إلى تجسيد الأمل في مستقبل مشرق لليمن، محذراً في الوقت نفسه من أي محاولات للالتفاف على أهداف الثورة أو التخلي عنها. استمرت قصائده في التواصل مع الجمهور بشكل قوي، حيث كانت تشكل جزءاً من الذاكرة الجماعية للشعب، وتعكس الآمال والتحديات التي كانت تواجه المجتمع اليمني بعد التحرير.
دور القصة والرواية كأدوات توثيقية للثورة
لم يكن الشعر وحده هو الذي لعب دورًا مهمًا في توثيق الثورة، بل كانت القصة والرواية أدوات فعّالة أيضًا. الروايات والقصص القصيرة التي كُتبت في فترة الثورة وما بعدها، كانت تعكس واقع الشعب اليمني ومعاناته تحت الاستبداد والإمامة.
من بين هذه الأعمال الأدبية رواية “مأساة واق الواق" للزبيري، التي تعتبر واحدة من أبرز الروايات اليمنية التي تناولت قضايا الثورة والنضال ضد الاستبداد. الرواية تجمع بين الواقعية والخيال، وتعكس الصراع بين القوى الظلامية والقوى الثورية في اليمن..
كذلك قصة "الغول" لمحمد عبد الولي، والتي يُصور الكاتب فيها معاناة الناس تحت حكم طاغية، ويستخدم الغول كرمز للطغيان والاستبداد الذي كان الشعب يعاني منه. القصة تعكس قدرة الأدب على تصوير الواقع، وتحث الناس على التخلص من الخوف والتحرك نحو التحرر.
ونستطيع أن نستخلص من كل هذه النصوص والأعمال الأدبية الخالدة بأن الأدب اليمني بشكل عام والشعر بشكل خاص في هذه الفترة لم يكن مجرد إبداع فني، بل كان سلاحًا فعالًا في معركة التحرير. كان للشعراء دور ريادي في تشكيل الوعي الوطني، وتعزيز الروح القتالية لدى الشعب اليمني. لقد لعبت القصائد دورًا كبيرًا في تجميع الصفوف وتحفيز الشعب للثورة ضد الاحتلال البريطاني، وصولًا إلى تحقيق الاستقلال الكامل في 30 نوفمبر 1967م.
كانت هذه القصائد بمثابة شعلة الثورة التي أضاءت طريق النضال اليمني نحو الحرية، بل كانت قذائفَ وبراكينَ موجَّهةً نحو صدورِ الطغيانِ والاحتلالِ البغيض، ودعوةً للثورةِ ضدَّ الكهنوت الإمامي والاحتلالِ الإنجليزي وستظل هذه الأعمال الأدبية الخالدة محفورة في ذاكرة الشعب اليمني كشاهد على تضحيات أجيالهم في سبيل الكرامة والاستقلال.