حينما غيرت البوصلة اتجاهها اليمن بين علاقات الندية والتبعية

Published:
المشاهدات:
682
اليمن بين علاقات الندية والتبعية

 

  • توفيق الحميدي

 

على مدار التاريخ، كان اليمن نقطة ارتكاز للتجارة العالمية والتفاعل الحضاري، وحلقة الوصل بين شرق العالم وغربة تجارياً، مستفيداً من موقعه الاستراتيجي على طرق الملاحة البحرية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر. منذ العصور القديمة، استفاد اليمنيون تاريخياً في نسج علاقات أفقية مع شعوب شرق إفريقيا وشرق آسيا، حيث تبادلوا المنافع وتركوا بصمات عميقة في تلك المجتمعات. غير أن التحول في وجهة البوصلة اليمنية نحو الغرب خلال القرون الأخيرة أدخل البلاد في مرحلة مختلفة من العلاقات الدولية، اتسمت بالتبعية والاستغلال، وخلّفت إرثًا ثقيلًا من الأزمات والتحديات.

 

لطالما شكلت العلاقات بين اليمن غرباً إفريقيا، وآسيا شرقاً نموذجًا متميزًا من التفاعل المتوازن. منذ الألفية الأولى قبل الميلاد، كانت الموانئ اليمنية مثل عدن والمخا مركزًا للتجارة البحرية العالمية. عبر هذه الموانئ، تدفقت البضائع مثل البخور والعطور والبن، التي حظيت بسمعة عالمية. في المقابل، جلب اليمنيون الذهب والعاج من شرق إفريقيا، وطوروا علاقات تجارية عميقة مع مناطق مثل زنجبار وساحل الصومال. هذه العلاقات لم تقتصر على التجارة فقط، بل امتدت إلى التبادل الثقافي والاجتماعي، حيث أصبح اليمنيون جزءًا من النسيج المحلي لتلك المجتمعات، وتركوا بصمتهم عبر القيم والتقاليد المشتركة.

 

لم تكن التجارة وحدها هي ما جعلت العلاقات بين اليمن وتلك المناطق فريدة، بل أيضًا الانتشار السلمي للإسلام من خلال التجار اليمنيين " من أبناء حضرموت" الذين وصلوا إلى أرخبيل الملايو في إندونيسيا وماليزيا. بطريقة غير مباشرة، أسهم اليمنيون في تشكيل الهوية الثقافية والروحية لتلك المناطق، التي مازالت راسخة في التصوف، اللباس والتجارة، وهو ما جعل علاقاتهم بها تقوم على الاحترام والندية بدلًا من الاستغلال أو السيطرة. في هذه المناطق، أصبح اليمني سفيرًا للسلام والتعاون، ولم يكن غازيًا أو مستعمرًا.

 

لكن الصورة تغيرت عندما اتجهت اليمن نحو شمالاً. منحازا مره الي الشمال الشرقي روسيا، أو الشمال الغربي أوروبا وبريطانيا، حيث بدأت قبل  الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839، حيث بدأت مع الاطماع الرومانية قبل التاريخ ، للتواصل مع الفرس والبرتغاليين لاحقا، قبل ان تدخل اليمن في حقبة جديدة من العلاقات القائمة على الاستعمار والاستغلال. بريطانيا، التي سيطرت على عدن كميناء استراتيجي، استنزفت موارد المنطقة دون أن تقدم أي دعم يُذكر لتطوير البنية التحتية أو تحسين مستوى معيشة السكان. لاحقًا، ومع اكتشاف النفط، لم تختلف المعادلة كثيرًا، حيث أصبحت الدول الغربية تعتمد على اليمن كمصدر للمواد الخام دون أي شراكة حقيقية في تطوير قدرات البلاد الاقتصادية.

 

الضرر لم يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد إلى الهوية الوطنية والثقافية. فرض الاستعمار الشمالي "الشرقي والغربي"   ثقافات وقيمًا غريبة على المجتمع اليمني، مما أدى إلى حالة من الاغتراب الثقافي وفقدان الثقة بالنفس. بدلًا من أن يكون اليمن شريكًا في صنع القرار، أصبح ساحة مفتوحة لتجاذبات القوى الدولية التي استخدمته لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، ما أدى إلى تفاقم الأزمات الداخلية وزعزعة الاستقرار.

 

اليوم، حينما ننظر إلى الماضي، يبدو جليًا أن العلاقات الافقية مع إفريقيا وشرق آسيا كانت أكثر عدالة واستدامة، بينما حملت العلاقات مع الرأسية مع الغرب الاشتراكي والرأسمالي طابع الاستغلال والتبعية. هذا الإرث التاريخي يقدم درسًا بالغ الأهمية لليمن: التوجه نحو شراكات متوازنة تحترم المصالح المشتركة وتضمن الاستقلالية هو الخيار الوحيد لبناء مستقبل أفضل. استعادة البوصلة لا تعني العودة إلى الماضي، بل تعني تبني نموذج من العلاقات الدولية أكثر إنسانية، يعيد لليمن مكانته التي يستحقها.

 

وهذه الملاحظة تنسحب تاريخيا على الدول الأموية والعباسية وغيرها التي اعتبرت اليمن، ولاية تابعة فقدت مكانتها وحضورها التاريخي تحت عباءة التبعية، وفي العصر الحديث امتد هذا التهميش مع جواره العربي، ومصر، والدولة العثمانية، حيث اتسمت بتداخل معقد بين النفوذ السياسي والتبعية الاقتصادية. مع السعودية ودول الخليج، تشكلت علاقة غير متكافئة ترتكز على الدعم المشروط الذي غالبًا ما استُخدم كأداة تأثير على القرار اليمني. خلال الحقبة المصرية، كان التدخل في شمال اليمن، تحت شعار القومية العربية، مرتبطًا بمصالح إقليمية لم تراعِ خصوصية اليمن كدولة مستقلة. أما الدولة العثمانية، فقد تعاملت مع اليمن كإقليم تابع ضمن توسعها الإمبراطوري، مما أدى إلى تركيز الحكم على الجوانب العسكرية والإدارية دون تعزيز بنى التنمية المستدامة. هذا التاريخ يعكس تحديات مستمرة في بناء علاقات متوازنة مع الجوار والإرث التاريخي.

 

 

إرث التاريخ وفرص المستقبل

 

في عصر تتزايد فيه العلاقات العالمية من خلال العولمة والتكنولوجيا، يطرح سؤال جوهري حول كيفية استعادة اليمن لدوره التاريخي واستثمار موقعه الجغرافي الفريد في إعادة بناء علاقاته الدولية. يشكل اليمن حلقة وصل مهمة بين الشرق والغرب بفضل موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر وامتداده في شبه الجزيرة العربية. في هذا السياق، يمكن لليمن أن يستفيد بشكل كبير من علاقاته التاريخية مع عدد من الدول في شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، مثل كينيا وإثيوبيا وتنزانيا وإندونيسيا وماليزيا. تلك الدول لم تكن فقط شريكة لليمن في الماضي، بل أصبحت اليوم قوى اقتصادية صاعدة وجيوسياسية مؤثرة في العالم.

اليمن يتمتع بوجود جاليات تاريخية مؤثرة في تلك البلدان، حيث حافظ اليمنيون في نيروبي ودار السلام وكوالالمبور وجاكرتا على جذورهم الثقافية والاجتماعية، وهو ما يمثل مصدراً مهماً لبناء علاقات قوية ومؤثرة مع هذه الدول. على سبيل المثال، اليمنيون في كينيا كانوا جزءاً مهماً من المجتمعات المحلية منذ القرن التاسع عشر، حيث ساهموا في التجارة والثقافة والتعليم، الأمر الذي ساعد في بناء روابط دائمة مع الشعب الكيني. هذه الجاليات تمثل قوة ناعمة يمكن لليمن الاستفادة منها لتعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية، وهو ما يعزز قدرة اليمن على التفاعل مع القوى الصاعدة في إفريقيا وآسيا.

 

من خلال استثمار هذه العلاقات التاريخية، يمكن لليمن أن يستعيد مكانته في الساحة الدولية. في الوقت الذي تحظى فيه دول مثل ماليزيا وإندونيسيا باقتصادات نامية ومتنامية، فإن التعاون مع هذه الدول يمكن أن يساعد اليمن في تطوير اقتصاده ومجتمعه، خاصة في المجالات التجارية والتكنولوجية، التي تعتبر من أبرز نقاط القوة لتلك الدول في الوقت الراهن. إن بناء علاقات استراتيجية مع هذه الدول يعد خطوة ضرورية للولوج إلى أسواق جديدة وتعزيز التعاون السياسي والدبلوماسي في مناطق حيوية مثل جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الدول تشارك اليمن في العديد من القيم المشتركة مثل الحرية والمساواة والتعددية الثقافية، وهو ما يشكل أساساً لخلق تحالفات سياسية قوية تدعم اليمن في تحقيق أهدافه على الصعيد الدولي.

 

تصحيح العلاقة

 

تصحيح العلاقة بين اليمن ودول شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا يتطلب تبني رؤية استراتيجية قائمة على التكامل، مما يتطلب أولاً إصلاحًا هيكليًا داخليًا في كيفية تعامل اليمن مع علاقاته الخارجية. هذه المرحلة تمثل فرصة حاسمة لبناء مؤسسة وطنية متخصصة بإعادة تفعيل العلاقات مع هذه الدول، التي تشهد حاليًا تحولات اقتصادية وجيوسياسية متسارعة. يعتمد هذا التحول على أسس متعددة تبدأ بتأسيس مشروع وطني جامع يعكس تطلعات الشعب اليمني، ويهدف إلى استعادة الدولة اليمنية وتعزيز استقرارها السياسي والاقتصادي. هذه المرحلة تتطلب إعادة تعريف الدبلوماسية اليمنية لتصبح أكثر فاعلية، إذ ينبغي أن تتحول السفارات اليمنية في الدول الشريكة إلى مراكز حيوية للترويج لليمن كشريك استراتيجي اقتصادي وثقافي، وهو ما يسهم في تحسين صورة البلاد وتعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة في هذه المناطق.

 

على الصعيد المحلي، يجب العمل على تطوير البنية التحتية بشكل يتماشى مع احتياجات اليمن الاقتصادية والاستراتيجية. في هذا السياق، تُعد إعادة تأهيل الموانئ اليمنية، مثل عدن والمخا، خطوة حيوية نحو تعزيز القدرة التنافسية للبلاد في السوق الإقليمية والدولية. من الأهمية بمكان أيضًا إطلاق مبادرات تجارية تستثمر في القطاعات الحيوية مثل الزراعة وصيد الأسماك، وذلك من خلال تأسيس شركات مشتركة بين اليمنيين في الداخل والجاليات اليمنية في الخارج. هذا التوجه سيحقق تعزيزًا ملموسًا للاقتصاد الوطني من خلال توفير فرص عمل جديدة، وتشجيع الاستثمار المحلي والدولي، مما يسهم في تحقيق الاستدامة على المدى الطويل.

 

يشكل التخطيط المشترك للتنمية الاقتصادية والتجارية حجر الزاوية لإعادة بناء العلاقات بين اليمن ودول شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا. من خلال توقيع اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع هذه الدول، يمكن لليمن التركيز على مجالات حيوية مثل الزراعة والطاقة المتجددة، مما يعزز من تنمية اقتصاده المحلي. علاوة على ذلك، يمكن لليمن استثمار موقعه الجغرافي كحلقة وصل بين هذه الدول ومنطقة الشرق الأوسط وأوروبا، ليصبح نقطة محورية في شبكة تجارية إقليمية، وهو ما يعزز من مكانته كمركز إقليمي للنقل والتجارة. تعزيز القوة الناعمة يمثل أداة أساسية لبناء علاقات استراتيجية مع هذه الدول. دعم الجاليات اليمنية المنتشرة في نيروبي وأديس أبابا وكوالالمبور وجاكرتا يعزز من تواصل اليمن مع هذه الدول من خلال إنشاء مراكز ثقافية يمنية تسهم في تعزيز الفهم المتبادل، مما يساعد على بناء علاقات شعبية قوية تسهم في تعزيز التعاون بين الحكومات والشعوب.

 

في هذا السياق، من الضروري أن يتبنى اليمن استراتيجيات دبلوماسية اقتصادية وتعليمية لتعزيز التعاون المستقبلي مع دول شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا. على صعيد التعليم، يجب فتح برامج تبادل طلابي ومنح دراسية لاستقبال طلاب من دول مثل كينيا وإثيوبيا وتنزانيا في الجامعات اليمنية، وفي المقابل إرسال طلاب يمنيين إلى هذه الدول للاستفادة من خبرات التعليم المتقدمة. هذه المبادرات لا تعزز فقط تبادل المعرفة الثقافية والعلمية، بل تسهم أيضًا في بناء تفاهم مشترك بين الشعوب.

 

من الناحية التجارية، يتطلب الأمر تعزيز الروابط الاقتصادية من خلال الاستثمار في رجال الأعمال اليمنيين العاملين في هذه الدول، مما يساهم في تطوير فرص تجارية واستثمارية تدعم الاقتصاد المحلي وتوفر فرص عمل جديدة. على الصعيد السياسي والجيوسياسي، يجب على اليمن العمل على تعزيز موقفه في المحافل الدولية، بالتعاون مع دول إفريقيا وآسيا في قضايا مثل الأمن الغذائي، التغير المناخي، وحرية التجارة. التنسيق مع هذه الدول يسهم في تعزيز المواقف المشتركة ويساعد على التأثير في سياسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. من جانب آخر، يتعين على اليمن السعي لتقليل النفوذ الغربي السلبي في المنطقة، وبناء تحالفات استراتيجية مع هذه الدول لتعزيز السيادة المشتركة، مما يفتح المجال لتحقيق مواقف أكثر استقلالية ويسهم في تحسين مكانته على الساحة العالمية.

      

 

استشراف النتائج تجاريًا وجيوسياسيًا

 

إعادة بناء العلاقات مع شرق إفريقيا وشرق آسيا تمثل تحولًا استراتيجيًا قد يعيد تعريف مكانة اليمن في النظام الدولي. من الناحية التجارية، يمكن لليمن أن يحقق مكاسب ضخمة بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين ثلاث قارات: إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. التحول إلى مركز لوجستي إقليمي لا يقتصر على توفير طريق جديد للتجارة فحسب، بل يمكنه فتح أسواق جديدة للمنتجات اليمنية التقليدية مثل البن وصناعة النسيج. التعاون مع دول مثل إندونيسيا وماليزيا يمكن أن يشكل فرصة كبيرة لتصدير هذه المنتجات الفريدة، كما أن تطوير شراكات زراعية مع دول مثل إثيوبيا وكينيا يمكن أن يعزز القطاع الزراعي اليمني من خلال استثمارات مستدامة، بما يساهم في بناء بنية تحتية زراعية حديثة ويخلق فرص عمل للشباب اليمني.

 

على الصعيد الجيوسياسي، فإن تعزيز العلاقات مع هذه الدول سيسهم بشكل جوهري في تقوية موقف اليمن في مواجهة التحديات العالمية. التحالفات الجديدة التي سيبنيها اليمن مع القوى الاقتصادية الصاعدة في إفريقيا وآسيا، مثل إثيوبيا وكينيا في إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا في آسيا، ستكون بمثابة درع استراتيجي في مواجهة الضغوطات السياسية والاقتصادية الدولية. فبناء شبكة من الدول الحليفة يعزز قدرة اليمن على المناورة داخل المحافل الدولية والتأثير على مواقف الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الكبرى. هذا التعاون سيوفر لليمن منصة لطرح قضاياه الوطنية والإقليمية، ويعزز من استقلاله السياسي ويساهم في تحسين صورته على الساحة العالمية.

 

نحو اكتشاف جديد للعالم

إن إعادة اكتشاف العالم الذي ارتبط به اليمن تاريخيًا ليست مجرد خيار بل ضرورة استراتيجية لإعادة بناء مكانة اليمن في النظام الدولي. اليمن لا يحتاج إلى العودة إلى ماضيه، بل إلى استغلال دروسه لتشكيل شراكات جديدة أكثر عدالة وتوازنًا. في قلب هذه الاستراتيجية يكمن الاستثمار في عمق اليمن التاريخي وفي القوة الناعمة المتمثلة في جالياته المنتشرة في دول شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا. ولكن هذه القوة لا تقتصر على مجرد الحفاظ على الجذور الثقافية، بل في تحويلها إلى دافع حيوي لبناء شراكات تجارية وثقافية وتعليمية على أسس من التعاون المتبادل.

 

اليمن اليوم في حاجة إلى تبني رؤية هيكلية جديدة للعلاقات الدولية، ليس فقط لتوسيع نطاق تأثيره بل لإعادة اكتشاف ذاته كمركز إقليمي يمكنه تقديم نموذج من التكامل والتعاون في منطقة تمر بتغيرات جيوسياسية متسارعة. بناء جسور قوية مع الدول الصاعدة اقتصاديًا في إفريقيا وآسيا يمثل فرصة ذهبية لتوظيف موقع اليمن الاستراتيجي وموارده الطبيعية، وهو ما يمكن أن يعزز مكانته الإقليمية والدولية بشكل يتماشى مع تطلعاته نحو مستقبل أفضل.

 

  • ناشط حقوقي ورئيس منظمة سام للحقوق والحريات
expanded image