
*فيصل علي
لم يكن الوصول إلى الوحدة اليمنية سهلاً ولا مفروشاً بالورود، تشهد على ذلك نضالات شعبنا المريرة للوصول إلى إعادة الوحدة السياسية للبلاد، والخروج من مرحلة صنعتها الإمامة البغيضة والاحتلال خلال الفترة الماضية. لقد عبث الاحتلال البريطاني بخارطة اليمن الكبير، وزع المنطقة إلى إمامة تخادمت معه وفرضت نفسها في جزء من اليمن، وسلطنات ومشيخات عائلية على امتداد اليمن الطبيعي (جزيرة العرب)، هذه الجزيرة هي موطن اليمنيون الأول وهي ما نعني به حرفياً اليمن الكبير، فعلى امتداد التاريخ عاش اليمنيون فيها وانتشرت قبائلهم ودولهم على امتداد هذه الجزيرة بل ووصولاً إلى ما هو أبعد من الجزيرة العربية، منتشرين في آسيا ووصولاً إلى أوروبا وأفريقيا.
فلليمن ظهور حضاري واسع، وتاريخ سياسي كبير، وفي كل مرحلة امتدت الجغرافيا اليمنية وتقلصت بامتداد وتقلص الأنظمة الحاكمة، تمددت جغرافية الدولة اليمنية مع معين وقتبان وأوسان ويمنات وحضرموت وسبأ وحمير، ثم انتشرت اليمن كقبيلة وكثقافة وحضارة مع امتداد من الدولة الإسلامية الأولى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الدولة الأموية والعباسية وما تخللها من عصر الدويلات حتى العصر العثماني.
في العصر الحديث مع نضالات شعبنا قبل منتصف القرن الماضي كانت الوحدة اليمنية حلم وهدف للثورة اليمنية الخالدة في مراحلها الثلاث 17فبراير 1948، و26 سبتمبر 1962 وأكتوبر1963م، وعززت هذا الهدف أيضاً الثورة اليمنية في مرحلتها الرابعة في 11فبراير 2011م.
الثورة اليمنية لم تُحرر هذا الجزء من اليمن فقط، بل حررت كل امتداد اليمن الطبيعي، حررت الجزيرة العربية من الاحتلال البريطاني، والذي اضطر لحمل عصاه والرحيل، لكنه وكما هو معروف عنه ترك المشكلات خلفه، بل هندس هذه المشكلات؛ عن طريق تثبيت وكلائه في كل أرض حل بها، والعبث بالخرائط الجغرافية، والعبث أيضاً بالديمغرافيا، فعل ذلك في الهند وفي أرخبيل الملايو وفعل ذلك في اليمن الكبير.
العبث بالخرائط أهم سمات الاحتلال البريطاني، في هذا الجزء من اليمن قسم اليمن إلى جزئين، ضمن وجود إمامة متخلفة في شمال وغرب اليمن، وسلطنات متخلفة في جنوب وشرق اليمن، وساهم في فصل أقاليم من هذا اليمن وضمها لدول الجوار، فقد ضم إقليم ظفار لسلطنة عمان، وأقاليم جيزان وعسير ونجران إلى المملكة العربية السعودية.
ما الذي حدث في 22 مايو 1990م؟
صنع اليمنيون هوية سياسية جامعة، هي الجمهورية اليمنية، وعبث اليمنيون بخرائط العجوز الشمطاء ووحدوا هذا الجزء من اليمن الكبير، وأعادوا كتابة التاريخ، كان العالم يمر بتحولات كبرى؛ الانتقال من نظام القطبين إلى نظام القطب الواحد، ثم أعقبه حرب الخليج الثانية، وبعد أربع سنوات من إعادة إعلان الوحدة السياسية للبلاد عاد الاستعمار من خلال وكلائه في الجمهورية اليمنية الوليدة وفي الإقليم لإعادة تمزيق اليمن، فكانت مرحلة محاولة الانفصال والحرب الأهلية المدعومة إقليمياً، انتصرت الإرادة اليمنية فعلياً في الحفاظ على وحدة وسلامة البلاد، لكن النظام فشل في وضع سياسة معالجات لما خلفته الحرب، واستطاعت الأيدولوجيا المُحرِضة من صناعة مظلومية حَملًّت الشمال كل وزرها بدلاً من تحميل النظام الحاكم وزرها. هذا النظام كان خليطاً من كل اليمن شمالها وجنوبها، والنتيجة كانت عجز النظام السياسي عن وضع الحلول وكرس السلطة المركزية في العاصمة صنعاء.
واقع السلطة المركزية أحدث حراكاً سياسياً وثقافياً في عموم البلاد من خلال تشكل تحالف الأحزاب السياسية التي شعرت بالإقصاء عن السلطة وشكلت ما سُمي بتحالف اللقاء المشترك، ووصل النظام إلى مرحلة الفشل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
ومثلما كانت الوحدة هي في تصوري تصحيحاً لمسار الثورة اليمنية في مرحلتيها سبتمبر وأكتوبر، كانت الثورة اليمنية في مرحلتها الرابعة فبراير تصحيحاً لمسار المراحل السابقة ومرحلة الوحدة وما بعد الوحدة، حاولت ثورة 11فبراير 2011 انقاذ الدولة من الفشل والحفاظ على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، والحفاظ على هويته السياسية بعد عقدين من الوحدة اليمنية، ونجحت الثورة في تجنيب البلاد مرحلة التشرذم والانقسام والضياع وأزاحت السلطة الفاشلة، وأتت بسلطة توافقية وانتجت مخرجات حوار وطني شامل.
هذا الحوار الوطني الشامل أفرز الفدرالية من 6 أقاليم، وهذا الفرز أكد على وحدة اليمن وتثبيتاً لخارطتها السياسية، مع إجراء إداري في توزيع الأقاليم، نتفق أو نختلف مع مخرجات الحوار والفدرالية إلا أنها كانت مساراً مشروعاً وحلماً يمنياً ناتجاً عن الحوار الوطني الشامل. لكنه لم يُرضِ ضعاف النفوس في الداخل والمُتربصين باليمن إقليمياً ودولياً، فكانت الثورة المضادة والانقلاب البغيض في 2014م، وأتى الدعم الدولي والإقليمي والطائفي للهاشمية السياسية العرقية السلالية والتي تُمثل خطراً كبيراً على وحدة الأمة اليمنية.
انقلاب الحوثي- صالح
مَثَّل انقلاب الحوثي- صالح في 21 سبتمبر 2014 كارثة لليمن واليمنيين وأعاد خلط كل الأوراق، وأوقف الاستفتاء على الدستور الناتج عن مخرجات الحوار، ومثل تَحدٍ لليمنيين جميعاً، لقد غامر الانقلابيون بمستقبل البلاد وقادوا حرباً في كل الاتجاهات، فكانت المقاومة وعاصفة الحزم، والتي افرزت واقعاً جديداً، انتهت الشرعية بانقلابين متلاحقين في 2017-2019 انقلاب الانتقالي المتدرج على الشرعية، ثم انقلاب 7 أبريل 2022 الذي انهى الشرعية برمتها وأصبحت خليطاً من أمراء الحرب الذين يُشكلون واقعاً عسكرياً في البلاد، خلال هذه العاصفة تغيرت المملكة العربية السعودية وصار الحكم في سلالة الملك سلمان بدلاً من سُلالة ابيه عبدالعزيز، وباسم الحرب في اليمن تم ضمان الحكم لمحمد بن سلمان وبعد أن استتب الأمر توقفت الحرب في اليمن بين الحوثيين والسعودية إثر تعرض الأخيرة لهزيمة بطائرات إيران المُسيَرة، وبدأت الدعوة للسلام بين إيران ووكلائها من جهة، وبين السعودية من جهة أخرى، بينما اليمنيون عالقين بين السلم والحرب، ويعيشون واقعاً مُراً مما خلفته الانقلابات والحرب، ولا أفق للسلام بين اليمنين حتى إشعار أخر.
مستقبل اليمن
مستقبل اليمن شائك للغاية، إلى الآن ومُنذ تسع سنوات والجميع يتحدث عن عودة واستعادة الدولة، وأنه لابد من حلول يتدارسها الناس، ولذا على كل اليمنين في الداخل والخارج تدارس وضع بلدهم، نطالبهم فقط بالاهتمام ببلدهم كما يهتمون بلعبة الدومينو وكرة القدم وانتخابات تركيا أو بالنصف أو بالربع من ذلك.
على القوى المدنية التي تؤمن باليمن الكبير أن تتحرك في الواقع وترفع صوتها، لقد صمت المخلصون خلال هذه الفترة فمنذ عام ونيف تقريباً لم نعد نسمع إلا الأصوات النشاز؛ أصوات القرويين الذين يحلمون بدولة القرية، منذ عقد ونحن نحاول في يمنيون لفت الأنظار إلى الدولة اليمنية، والقرويون يلفتون الأنظار إلى الدولة القرية، الدولة الطائفة، الدولة الجهة، يحلم البعض بدولة إسلاموية، وآخرون بدولة علمانية، والبعض بدولة حضرموت التي ستشبه “سنغافورة بعد 40 عاماً” هكذا قالوا لنا، معتقدين أن هذا حق مشروع لهم، لم يدركوا أن آخرين سيقومون بنفس النهج وبنفس الفكرة وعلى أوسع قليلاً، فظهرت دولة الجنوب، جنوب الجن ليس لها اتجاه ولا اسم محدد، هكذا الجنوب ودولة الجنوب رأساً! هل جنوب السماء أم جنوب الأرض أم جنوب الهند أم جنوب موزنبيق؟ لا ندري، إن كانوا يقصدون بالجنوب جنوب الجزيرة العربية فبالتأكيد أن هذا الجنوب يشملنا أيضاً كون الجمهورية اليمنية وأجزاء من السعودية وكل عمان وأجزاء من الإمارات يقع ضمن هذا الجنوب، وإن كانوا يقصدون بالجنوب جنوب الجمهورية اليمنية فجنوب الجمهورية يبدأ من تعز وأجزاء من إب، كما أنه لا يشمل حضرموت والمهرة وشبوة وأجزاء من أبين، فهذه محافظات تقع شرق الجمهورية اليمنية، لديهم مشكلة في الجغرافيا، عليهم إعادة الدراسة من صف خامس ابتدائي ليتعلموا جغرافيا.
فكرة شمال اليمن وجنوب اليمن لا وجود فعلي لها، لم يكن اليمنيون يمزحون عندما رسموا الهوية السياسية للبلاد واستفتوا على دستورها وانتقلوا للنظام الديمقراطي بدلاً عن النظام الشمولي، مُسميات ما قبل 1990 انتهت، نحن في 2023م.
هناك من يدعو المسلمين في “عدن” للتوحد في إطار عدن وما يسمونه بالجنوب ويدعو مستدلاً بالقرآن والسنة للحفاظ على هذا الكيان المسخ، مع هؤلاء الجهلة بالدين وبالوطن معاً سنحتاج في مرحلة لاحقة إلى نبي لكل قرية، ودين جديد لكل قرية، وإله لكل قرية! من أين سنأتي لكل هذه القرى والمشاريع الصغيرة بأديان وأنبياء ورسل وآلهة؟ هناك من يريد تقسيم اليمن إلى يمن زيدي ويمن شافعي ويمن سني ويمن شيعي، ومادام أن الحوثيون الزيود قد أخذوا صنعاء إذاً لا بد من الانفصال ومع من نتوحد؟ هكذا يقولون وكأن المطلوب منهم إقامة وحدة للبلاد أو ما شابه، هناك مشكلات علينا جميعاً حلها لا زيادة التوسع فيها.
هناك من يريد أن يعمل على صناعة جمهورية المخا، وبجوارها جمهورية تعز العظمى، وبينهما جمهوريتي الحجرية وشرعب، هناك من يدعوني بحسن نية إلى تبني المظلومية التعزية، ونبدأ نفكر بتعز ونعمل لأجل تعز هذه الدعوات تشعرني بالضيق وتدعوني للصمت والاعتزال، لكني حتماً سأنفجر في وجه الجميع، أنا يمني ولا أستطيع أن أكون غير ذلك، لا تدعوني إلى تمزيق بلدي باسم كرت اللجوء الذي تحمله، أو باسم الجنسية الجديدة التي تحملها، كل كائن يريد تقسيم اليمن بحسب مزاجه، وهناك مظلوميات كثر لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي تهامة يوجد تهايم لابد لكل منها جمهورية، وإب أيضاً لازم نقسمها إب الزيدية وإب الشافعية، من سمارة ومطلع ومن سمارة ومنزل، والقفر أيضاً تحتاج جمهوريتين للقفرين مطلع ومنزل لكل قفر جمهورية لرأسه، لابد من شعب وجمهورية لكل قرية، وكذلك وصابين الأعلى والأسفل جمهورية مستقلة، والطويلة في المحويت لابد لها من جمهورية، والطوال في حجة جمهورية، وجمهورية المخلافين (أعلى وأسفل) وجمهورية سعيدة وجمهورية فاطمة .. على كل هذا الجنون أن يتوقف علينا أن نصمت عن قول الحماقات، كفى وكفاية، بحجر الله كفاية هراء.
ما الحل؟
سلام يمني يمني، سلام لجميع اليمنين سلام المواطنة المتساوية والحرية، سلام العدالة، سلام عودة المشردين واللاجئين والمُهجرين والمنفيين والمبعدين، سلام إطلاق كل الأسرى من سجون الحوثي والانتقالي والشرعية والسجون السعودية أيضاً، علينا التفكير جميعاً بمفردات هذا السلام وتفاصيله، لا أمم متحدة ولا إيران ولا غيرها مَعني بهذا السلام. سلام يحافظ على الجمهورية اليمنية، سلام يحافظ على اليمن وسلامة أراضيه، سلام يحافظ على النظام الجمهوري وعلى الدولة اليمنية.
علينا جميعاً أن نطالب الإقليم بترك بلدنا وشأنه وعدم تمزيق اليمن فهذا التمزيق لن يمر بدون عقاب مماثل لا نتمناه لأحد، لا نتمنى انفصال دبي ولا الشارقة عن الإمارات ولا نتمنى انفصال الحجاز أو نجد عن السعودية، لا نريد تحقيق خارطة الدم التي تحدث عنها الأمريكان والتي تقسم العالم العربي وفقاً للعرقيات والطوائف.
نريد من القوى السياسية وأمراء الحرب التوقف عن تقديم الخدمات مدفوعة الأجر للخارج، نريد منهم جميعاً تقديم تنازلات لأجل الشعب اليمني الذي عانى منهم جميعاً، من حقنا أن نُطالب الأيديولوجيات المُحرضة على اليمن أن تتوقف عن حماقتها، ونطالب القرويين التوقف عن هدر وقتنا للرد على جمهوريات القرى المتشاكسة، نُطالب أمراء الحرب بتقديم التنازلات لليمن بالتخلي عن أوهامهم؛ نُطالب الانتقالي بالتخلي عن وهم دولة الجنوب، ونُطالب الحوثي بالتخلي عن خرافة دولة السلالة والكهنوت، ونُطالب الإصلاح بالتخلي عن خرافة الدولة الإسلامية، هذه تنازلات مطلوبة لأجل اليمن، بالتنازل عنها والتخلي عن منطق السلاح والقوة واختلاق دول وهمية سنعبر بالوحدة اليمنية إلى الدولة الاتحادية المنشودة، ونضمن مستقبلاً أفضل لكل الأجيال القادمة، يكفي ما لاقته الأجيال السابقة وهذا الجيل من عذابات وما قدمه اليمنيون من تضحيات. لا مستقبل مع الأوهام فالمستقبل للدولة اليمنية بكل تأكيد.
* ورقة عمل بعنوان” مستقبل الوحدة اليمنية في ظل اليمن الاتحادي” شارك بها الدكتور فيصل علي رئيس مركز يمنيون للدراسات في ندوة الوحدة اليمنية رؤية المستقبل وتحديات الحاضر والتي أقامها اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا في 18 مايو 2023م عبر تطبيق زوم.
شاهد مشاركة رئيس مركز يمنيون على اليوتويب
اقرأ أيضاً
رئيس يمنيون فيصل علي للأناضول: ثلاثة سيناريوهات للحرب والسلام في اليمن