بيض عدني

Published:
المشاهدات:
2422
بيض عدني

كان الصيف على أشده في القرية، لا يقي من شموسه الحارة سوى الظل تحت أشجار "العِلب" المنتشرة في الوديان. والحصة السادسة كئيبة ومملة لا أحد منتبه للأستاذ عبده وهو يشرح لنفسه الدرس الأخير، الأقلام الدفاتر والكتب داخل الحقائب، لا أحد من الطلاب مستعد لهذا الدرس الذي لم تتضح معالمه أنه في العربي أو في الإنجليزي، دق باب الفصل ونوديت بالخروج، كان المدير يتكلم عن رحلة نوعية إلى عدن، قلت له في نفسي أين أنت يا أستاذ من الصباح؟ لم أنم ليلتها، وأخيرا سأزور عدن التي لم أسمع سوى اسمها من الإذاعة بصوت المذيعة التي لا أتذكر من تكون، وهي تقول "هنا عدن" لتزف لنا سلسلة أغاني ما بعد الظهيرة، لم أكن بعد مهتماً بنشرات الأخبار الطويلة التي لا تنتهي مثل الحصة السادسة.

في صباح اليوم الثاني كنا في الباص المتجه من القرية إلى تعز – عدن، الابتسامات على الوجوه كأننا من سيذهب ليأتي بالعيد الذي طال انتظاره، تركنا حر الصيف في القرية والهواء لا يتوقف عن النفاذ بقوة من نوافذ الباص، هذا هو البرود الذي نريده. نلبس البنطلونات و"الاكوات" الملونة ما بين الأزرق الفاتح، وبقية الألوان الغامقة، أتذكر أني أرتديت يومها كوتاً رمادياً. منظرنا فوق الباص مثل "الشواعة" في الأعراس الذاهبين في الزفة، لا ينقصنا سوى بنادق الكلاشنكوف.

رائحة "بريلكريم" الأخضر تفوح من رؤوس الشباب القرويين "المتحضرين الجدد"، قبل أعوام كان استخدام كريم الشعر والشامبو من خوارم المروءة، فهذه من متعلقات النساء، فالرجل القروي يجب أن يكون أغبر ابن أغبر "مشحوط"، ومن يفعلها ويغسل شعره بشامبو يظل ينتظر حتى يجف شعره وتذهب الرائحة، وإلا لن يسلم من التعليقات الجارحة مثل: "أهلا يا فلانة، غسلتي شعرك بشامبو نعيماً، ما أحسنِك شعرك نظيف، يا رخوة لا تلعب حادي وقده معنا روح العب مع البنات".

من الحوبان كان الباص يبتعد عن تعز ونحن نستبشر أنه بعد المنعطف التالي في الطريق المتعرجة سنرى عدن والبحر، لكن البحر أبى الظهور بسرعة. في نقطة كرش توقف الباص، توقفت تيارت الهواء عن المرور عبر نوافذ الباص، وبدأ الحر يتصاعد؛ أوف أوف يا عيال يبدو أن عدن حمى أكثر من القرية!.

الوقت يقترب من الظهيرة، صاح محمد ما في أحد منكم يا عيال جزع معه "زعقة"؟ لم يرد عليه أحد، طلاب مدرسة والزعقة ممنوعة، وهذا يريد أن يفعل لنا مشاكل مع الوكيل. منذ فترة كنا في الفصل نتسلى بالزعقة وهي حبوب البطيخ المقلية، الأستاذ يتضايق من هذا الفعل، يقول لنا هذه مدرسة وليست مقهى، كنت أردد سؤالاً في خلدي وما الفرق؟ وبالفعل تم منعنا من تناول الزعقة في الفصل نهائياً، والتزمنا وتعهدنا للأستاذ.

 في اليوم التالي في وقت الراحة ذهبت إلى السوق واشتريت تقريباً نصف كيلو زبيب وعدت إلى الفصل قبل أن يدخل أستاذ الحصة الرابعة ووزعته على الشباب، قلت لهم هاكم كلوا زبيب، منعونا من الزعقة ولم يمنعونا من الزبيب، ألتفت إلينا الأستاذ بغضب ما هذا؟ حلفت له والله أنه زبيب يا أستاذ واعطيته حفنه منه، نظر الذي حبات الزبيب في يدي وأخذ حقيبته ودفاتره وأنصرف غاضبا نحو الإدارة.

 بمجرد مغادرته عرفت أنه قد وعى الدرس جيداً، ولم يكن عندي مانعاً من تعليم الأساتذة احترام قوانين وقواعد السوق التي نفرضها نحن، فوضى محترمة بقواعد تبقيك كطالب داخل أسوار المدرسة، دون أن تستسلم لتعليمات الإدارة ولا لعصى المدير ووكيله الذي نلقبه "الأبال" عندما يعاقبنا يقوم بضربنا كما يضرب الراعي الإبل، ومع كل ذلك فرضنا وجودنا وعبرنا عن أنفسنا بطرق ملتوية.

كلما اقترب باص "الكوستر" من عدن ارتفعت درجة الحرارة، هذه عدن نار، ورد في ذهني ما جاء في الأثر "ونار تخرج من قعر عدن تطرد الناس إلى المحشر" رددت ذلك في نفسي، من ذا يزور النار بنفسه! لا يا نفسي سأزور عدن، بحرها يطفئ النار، ولو لزم الأمر سأخلع معطفي "الكوت" وأمشي مرتديا قميصي في السوق.

في المدرسة كان زميلاً لنا يعاني من نصف "هفة" يقول لنا: "أنا قائد حزب" كنت أسمعه يردد ذلك وأقول يا الله خراجك ماذا يعني حزب؟ سألته: بدأ يهذي حزب وسياسة وتنظيم، كنت أتخيله وحزبه الذي يتحدث عنه مثل عدل القرية المجاورة، وهو يتقدم خطى أصحاب قريته يوم العيد ليصلوا معنا في الجبل، تخيلت زميلنا وهو يضع المشدة على رأسه، واعتراني الضحك "لم يأمنه الله حتى على شنب عاده سيضع المشدة على رأسه"، وجاءني صوت من الشاعر سُحَيم بن وَثِيل:

"أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُ الثَّنَايَا

متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني

وَإِنَّ مَكَانَنَا مِنْ حِمْيَرَيٍّ

مَكَانُ اللَّيْثِ مِنْ وَسَطِ الْعَرِينِ

وَإِنِّي لا يَعُودُ إِلَيَّ قِرْنِي

 غَدَاةَ الْغِبِّ إِلَّا فِي قَرِينِ

بِذِي لِبَدٍ يَصُدُّ الرَّكْبُ عَنْهُ

 وَلاَ تُوتَى فَرِيسَتُهُ لِحِينِ"

هذا ليس وقتك أنت والحزب والكلام الفارغ، لم أكن أدرك أنى سأتورط في علاقات حزبية "ملئ القفة" وسأجلس مستقبلاً على قارعة الطريق ألعن كل من مروا من الأحزاب والحزبية التي أسهمت في ضياع البلاد.

في مثلث العند توقف بنا الباص ونزلنا لتناول الغداء. شارع متسخ مليء بأكياس بلاستيكية، وشمس حارقة، وغبار، بشركم الله بالخير، هي هذه جنة عدن! قلت في نفسي.

أهم ما في العند الحلاوى والهريسة معظم المحلات تعود ملكيتها للقباطي، سألت زميلي تقول القباطي هذا كم معه محلات هنا؟ قال السوق حقه كله ربي رزقه، قلت له فعلا ربي رزقه، لم نكن ندرك أن القباطي لقب وليس اسم شخص، ولم نكلف أنفسنا نحن القرويين الذاهبين إلى عدن أن نقرأ أسماء أصحاب المحلات كاملة على اللوحات، فقط كنا نقرأ اللقب باعتباره الاسم، نحن ذاهبون إلى عدن هل سنتفرغ لقراءة الأسماء؟ عدن والبحر والتواهي، و" يا بنات المعلا يا دواء كل عله". عندما سمعت الحاج عبد الرحيم في القرية يتحدث عن المعلا في عدن قلت له يا حاج المكلا في حضرموت، قال "المعلا دكة" في عدن، يومها عرفت أني لا أعرف هذه البلاد الكبيرة، لكن كنت متأكداً أني سأعرفها ذات يوم، وبعد سنوات من الحوار معه كنت في الطريق إلى المعلا. وإلى اليوم لم أتعرف على المكلا بعد.

ما أروعك يا عدن، ماء البحر يكاد يرتفع إلى الجسر الذي يقسم البحر نصفين والباص الذي يقلنا يمر من فوقه، يبدو أن هذا الجسر هو أعظم جسر في الدنيا التي بدأت التعرف عليها للتو. الميناء ورافعاته هناك على مرمى كلاشنكوف، لا لا على مرمى "جرمل زاكي الكرام" الكلاشنكوف تصل رصاصته إلى نحو ألف متر إلا قليلاً، والجرمل وهو فخر الصناعة الهتلرية تصل رصاصته نحو 2 كيلو متر وازيد.

في العام 1988م أول مرة تجرى فيها انتخابات برلمانية في البلاد، تجمع الرجال من قريتنا والقرى المجاورة وراحوا فوق السيارات النقل "الشاص" اليابانية الصنع وارد بازرعة إلى قرية "الحمرج" المتوسطة بين القرى، استئذانهم بصفتنا نريد مشاهدة عملية التسجيل للاقتراع، لم نسجل فيها فما زلنا تحت السن القانونية للاقتراع للأسف.

يجلس في صندوق السيارة الشاص رجال عظيم الخلقة اسمه أحمد عبده، ويبدو أنه كان متوعكاً، وسألوه ماذا بك وأنت طويل مثل "سلم السرق؟" ابتسم وبدأ يقول كلاما مضحكاً اكتشفنا ذلك اليوم واحداً من أهم الناس الذين يسخرون من الواقع، ويطلقون النكات بالسجية. قال عن نفسه أنه منذ أيام يعاني من الإسهال، نتيجة تسمم غذائي، وقال لا تخافوا اليوم لبست "الفدامة حق السلح" كانت هي الجملة الساخرة التي أنستنا عملية التسجيل والانتخابات برمتها كيف يضع هذا الرجل العجوز حفاظة مثل الأطفال؟.

 هذا الرجل فكاهي بشكل عجيب، ومع ذلك يحمل بندقية ألمانية الصنع من نوع "جرمل زاكي الكرام" - لست متأكداً من اسم الموديل الحقيقي لتلك البندقية، لكنها مشهورة بهذا الاسم- قال لنا بهذه البندقية اسقطت طائرة مروحية في عدن أيام العمليات العسكرية ضد الاحتلال البريطاني، قلت بيني وبين نفسي والله إنك كذاب، لم أجرؤ على تكذيبه علناً، وإذا بي أسمع الكبار يقولون فعلاً أسقط بها طائرة، لم أتقبل الفكرة، الطائرة بإمكانها تصويبك وقتلك، لكن ببندقيتك هذه لا تستطيع. تذكرت البندقية وصاحبها وأنا أحملق في سماء عدن وأصنع بانوراما حية، أشاهدها وحدي من نافذة الباص المار فوق شوارع عدن.

 مسجد العيدروس

شعرت بهيبة هذه المدينة وتحدثت إلى الأرواح المعلقة في سمائها وعلى جبالها السوداء الجرداء، ومع أن الرطوبة شكلت صدمة للقروي القادم من الجبال البعيدة، شعرت بالعرق على حسمي قد تحول مثل الزيت اللزج، إلا أن السحب البيضاء الخفيفة على سماء عدن خففت هذه الصدمة، حملت فيها وقلت أنا أعرف هذه السحب، أما تاريخ هذه المدينة فأنا كفيل به. استوحشت قليلا وقرأت آية الكرسي كما أفعل دوما، كنت أريد خوض حواراً مفتوحاً مع المدينة الملهمة، مع الميناء، والساحل، والقاع، والسماء، لكن من يسمح لك هؤلاء المكومين في الباص وبرنامجهم والسباحة والكرة؟ انفصلت ذهنياً عنهم وذهبت في رحلة من الشرود، أنا لم آت للسباحة ولا للكرة ولا لنشاط المدرسة، أنا هنا أبحث عن ماهية هذه المدينة العظيمة، ما قصة تلك الكنيسة والمساجد العتيقة؟ وما قصة بريطانيا والبخور العدني والمعاوز التي يلبسها الكثير من الناس؟ ما قصة هذا البحر وإلى أين يصل؟ وإلى أي مدى يصل عمقه؟

 كنيسة عدن

قضيت معهم نشاط ذلك اليوم، وجاء المساء العدني المهيب، لأول مرة أعرف معنى الغروب على الطبيعة البحرية، يبدو أن كرة الشمس الملتهبة غطست في نهاية هذا البحر الممتد إلى أخر العالم! كنت أنتظر لحظة هدوء تجمعني بعدن الساحرة، والحمد لله جاء وقت النوم، نام شباب القرية منهكين، لقد لفحتهم أشعة الشمس وهم يحملون هذه الأكوات غامقة الألوان، والتي تمتص أشعة الشمس، يا خسارة دروس العلوم القديمة وضعت في الكتب فقط، ولم تخرج إلى الواقع، الرعوي يجب أن يجرب كل شيء بنفسه، لا أحد يعلم أحد، ولا أحد يتعلم ببلاش.

 

بمجرد أن نام القوم استيقظت كاستيقاظ دراكولا من تابوت موته، تعود إليه الروح فجأة فيفتح عينه، ويحرك فمه الملون بالدم، ووجهه المليء بالطحين الأبيض، تسللت من تحت الغطاء كالشعرة التي تسل من العجين، ووجدتني خارج الأسوار، أقدامي التي تعلمت المشي بدون أن يسمع قرع نعالها أحد ساعدتني على الابتعاد بسرعة دون أن يشعر بي أحد، حتى عدن الكبيرة الساحرة المضيئة ليلا لم تكن تسمع قرع نعالي أيضاً. علمني صديقي في القرية كيفية المشي على رؤوس الأصابع بسرعة وخفة، لا أدرى إن كان يؤهلني لأكون لصاً في المستقبل أو مخبراً، المهم أنى أجدت هذا المشي بجدارة، لم أتحول إلى لص بعد، لكني عندما عملت مخبرا صحفياً فيما بعد لم أمشِ سوى على أنامل يدي.

 

ذهبت كمن فك أسره وهرب من السجن، ومن يومها أدركت أن السفر برفقة الجمع لا تستهويني، ولن أسافر مستقبلاً إلا معي أو مع من يشبهني - سافرت معي دوماً، ولم أجد بعد من يشبهني- لم أكن أعرف أين نزلنا ولا حتى اسم الشارع والحارة، ومضيت في الطرقات لا ألتفت خلفي، اعتمدت على أقدامي وروحي التي تحلق في ليل عدن المعطر بالبخور والفل، كانت ليلة خميس، لا أعلم إن كان البخور الليلي يحترق بمناسبة الخميس أم أنها عادة عدنية ليلية؟

 

النساء يتحدثن من البلكونات المطلة على شارع ضيق، لم أحب الاستماع إلى أحاديث النساء العدنيات، أصواتهن ولكنتهن ليست بعيدة عن لكنة تعز - الحجرية والله وربي، ورأس أمي أنه سرح واندكو، وجعلك العافية- استغربت فقط من استبدالهن للذال بالدال، قلت لنفسي يا ليد أحسبه لهن من باب الدلع مثل اللبنانيات اللاتي استبدلن لفظ الله في قولهن يا الله بـ "يلا"، ألسن العرب تأكل أحرف اللغة، وهذه ليس مشكلة، فالعرب في حالة فقر والجوع يقرط الحروف.

روائح الفل مخلوطة "بالخوعة"! يبدو أن السفر قد أثر على حاسة الشم عندي، ما علاقة العنصيف بالفل؟ هذا قده سحاوق قلت في نفسي، لكن لا سحاوق يخلط بالفل! إنها عجائب مدينة عرفت كل أنواع المسافرين من أوروبا وأفريقيا والهند وكل البلاد البعيدة، عدن ليلتها بدت كعروس سمراء تضع أقدامها في الماء قبل وضع الحناء.

 

قلة من الرجال يمشون في الشوارع يتحدثون بأصوات مرتفعة، لا أحد أخبرهم أن الناس نيام في بيوتهم المطلة على الشارع؟ حدثت نفسي. عدت أقول أهل عدن أدرى بأزقتها، ما أدراك أنت أيها القروي القادم من الظلام الدامس إلى مدينة الضوء والبخور والبحر؟

قادتني الأزقة إلى أزقة أخرى، لم يكن أحدا من المارة يرى دراكولا الذي ترك كوته ملقى على فراشه قبل أن يغادر مرقده، يا ترى أين تمت المواجهة بين الثوار والإنجليز؟ هل هذه الأزقة قد شهدت المواجهات؟ أين ولدت الحركات والتيارات والأحزاب في أي الشوارع والمخابئ؟ كم سفكت من الدماء على أرصفة هذه المدينة العتيقة؟ كل الأسئلة التي دارت في رأسي ليلتها أثارت في روحي الشجون، أين تاريخ هذه المدينة لأقرأه قبل أن تشرق الشمس؟

 

هذه المدينة صديقة الفقراء، والأدباء، والشعراء والفقهاء، والساسة والتجار والعمال، حين توفرت فيها الأعمال بسبب تجمع السكان للعمل مع البريطانيين والتجار القادمين عبر البحار، كانت شركة الهند الشرقية تسيطر على التجارة فيها، أتى العمال "الجبالية" من ريف عدن -الحجرية- وهي المناطق الجبلية الممتدة بين تعز وعدن، يستيقظ أبناء الفلاحين هناك قبل الفجر ويحملون أردفتهم ما تشرق الشمس وهم في عدن. حركة المجتمع هي من تصنع أسواقه قبل الساسة القدامى منهم والجدد. تداخلت المدن والأسواق بكثافة الأرياف السكانية، وكما كانت إب تمثل ريف تعز كانت تعز بشقها الحُجري تمثل ريف عدن. إذاً أبناء الفلاحين الرعاة تركوا البلاد والزراعة والأغنام وجاءوا إلى عدن؟ ماذا صنعت بالناس يا شركة الهند الشرقية؟

 

عندما أدركت شركة الهند الشرقية أن ديموغرافية السكان في عدن يمثلها الجبالية الذين قدموا إلى الساحل ومعهم السمن والعسل والجلجل وأنشأوا المطاعم والمخابز والمقاهي، جلبت عمالة من الهند ومن الصومال، حتى لا يشعر أهل التاج البريطاني أنهم أقلية في أوساط يمنية كثيفة شديدة التعقيد في مكوناتها المجتمعية.

 راحت القصائد الشعرية تعظم السبول والجهيش والبن والعنب والقات والهواء والبرود، وتعظم السير إلى عدن. الحفاة يحملون ثقافة القرية، وبدأ القرويون بالحنين إلى بلادهم البعيدة، والتي لم يكونوا يستطيعون العودة إليها لأنهم ارتبطوا بأعمال مستمرة في عدن التي تنمو كواحة خضراء على طرف الجزيرة العربية التي تزداد تصحرا في كل اتجاه، تمدنت عدن قبل عواصم الرمال التي نشأت فيما بعد، وازدهرت فيها التجارة والثقافة معاً.

عندما أدرك العمال من أبناء الفلاحين أن بريطانيا تستغلهم أنشأوا النقابات العمالية والتي شكلت طلائع الثورة، وبالمقابل شكلت بريطانيا قواتها الأمنية والعسكرية من بعض من قبلوا العمل معها في هذه المهمة، وكان الخصام بين العمال و"السوجر" --soldier من المرتزقة، بريطانيا التي جلبت حتى سكاناً جدد لا ينتمون للأرض، ولا لثقافتها ولا لحضارتها، عملت على التفريق بين الناس بسياستها المعروفة "فرق تسد".

 وعندما بثت فكرة عدن للعدنيين، استغل سكان عدن الأمر وطالبوا بالمزيد من التمثيل في الحكم المحلي والبرلمان وكافة الوظائف بحكم أنهم أهل المدينة، خابت فكرة العجوز الشمطاء، فالعمال كانوا يشكلون قوام السكان المنحدرين من ريف تعز، "كان مثقفو المدينة يرددوا عدن للعدنيين نكاية في بريطانيا ولا يقصدون الآباء المؤسسين لهذه المدينة القادمين من الجبال".

تاريخ هذه المدينة يجب أن يعاد نبشه وقراءته وتعليمه للأجيال، هذه هي عاصمة التاريخ المعاصر، ومنها انطلقت حركات التحرر الوطنية، وفيها نشأت الأحزاب وترعرعت الأفكار، كان الإمام المؤسس للحركة الوطنية محمد بن سالم البيحاني قد أسس النادي العربي الإسلامي في عدن عام 1929، ومنه ومن غيره بدأت حركة الرفض للبقاء تحت وصاية المحتل، هذا التاريخ الموجع يقول أن الإمام البيحاني طُرد من عدن بعد خروج الإنجليز واستوطن تعز، التاريخ الملتهب في هذه المدينة غذته الأحقاد، التي تغلبت على الفكر والثقافة والشعر والحب، ودارت رحى الحرب كلما تقوى فريق ضرب الفريق الآخر، في ثنائية عجيبة غريبة لدرجة أن الحزب الواحد إن لم يجد من يضربه يضرب بعضه وينقسم على نفسه.

أقسمت ليلتها غير حانث أن هذه المدينة حزينة وكئيبة أكثر من حالنا في الحصة السادسة، ومن كل هذا التاريخ الذي يلعن بعضه بعضاً، ولا نجد صفحة من صفحات التاريخ إلا وتناقض أختها، من رباهم الإمام البيحاني ألحد بعضهم مع موجه الإلحاد الروسي الذي انتشر في القرن الماضي. فـ"ظننت ظنا فخاب ظني ظننت شيخاً طلع مغني" كانت أقل سخرية من خريج كُتاب ونادي إسلامي يتحول إلى شيوعي أو ملحد، الشيوعية كحركة كونية استوطنت عدن بدون مقدمات، لم يكن هناك حركة اقطاعية رأسمالية مقابلة استدعت نشؤها كديالكتيك كما تقول الشيوعية ذاتها، كان ارتماء في حضن يدفع "زائد ناقص" لقيادات لم تنتج فكرتها من روح المجتمع وإن خرجت من رحمه. عدن هي طريق الحجاج والبهرة والمتصوفة والطيبين ما علاقتها بالإلحاد؟.

 

كانت تلك الشابة التي تقف في الشرفة قد وضعت على وجهها الطحين! مبيضات البشرة التي تباع في أسواق هذه المدينة الساحرة، لا يبدو أنها تناسب هذا الوجه الأخضر المصنوع من البرونز، هذه الألوان باهته لا تناسب هذا اللون الذي يشبه اليمن، ويشبه أرضها السمراء، هل تحتاج الفتاة اليمنية الجميلة إلى هذا المكياج الذي يخفض مستوى الجمال؟ ليتها استمعت للمرشدي وهو يغني " اتـبع هوى الـبيض جٌمْله واعـشق الأخضر " الفن في هذه المدينة يخفف التكاليف الزائدة، لكن يبدو أن فكرة الشراء هي المسيطرة على السوق بعد كساد مرت بها المدينة من عهد الاشتراكية الشعبية المستوردة من السوق السوداء.

خطرت لي فكرة لا تستحق النقاش ليلتها، من تم تعيينهم كأمناء عاصمة أو محافظين لهذه المدينة هل كانوا يعشقون رملها وبحرها وجبل شمسان؟ هل امتزجت أرواحهم بتاريخها؟ هل دخلوا دورات تأهيلية قبل تولي مهامهم في هذه المدينة؟ هل قررت عليهم السلطات المتعاقبة قراءة تاريخ عدن، وشعر عدن، وغناء عدن، ورقص عدن، ومدنية عدن؟ هل يستطيعون صناعة الشاي العدني الملبن بأنفسهم؟ هل يجيدون طباخة البيض العدني الرطب لا محروق ولا ناضج ما بين البين؟ هل يستطيعون قراءة القرآن على مقام البيحاني ومقام فقهاء القرى الذين استوطنوا هذه المدينة أمّوا مساجدها؟ هل يستطيعون معرفة اسم القروي شاعر قصيدة: "يا طائرة طيري على بندر عدن"؟

قاربت الساعة الثانية فجراً وأنا ما زلت أهيم في وسط المدينة النائمة على البحر، احمد الله أنى لم اصادف كلابا في هذا الليل وفي هذه الشوارع التي لا حجارة فيها، لا أحب الكلاب، ولا المزح مع الكلاب، الأسئلة كانت أثقل على كاهلي من حمل الجبال، ما علاقتك أيها القروي بكل هذا؟ فضول القروي هو من صنع أسئلة ووجها لروح هذه المدينة. سألت نفسي هل مازال أصدقائي يغطون في نومهم؟ فلينامو ماذا عليهم! "ما فاز إلا النوم".

الثلاثية اللعينة؛ الدم والحرب والمدفع مجمل ما صنع منه التاريخ الحديث والمعاصر لهذه المدينة، فمتى تشرق شمس عدن؟ متى تعود إلى تاريخها الأول كأم المدن في جزيرة العرب والقرن الأفريقي؟ متى ستعود مزاراً للشرق والغرب، ومركزاً عالميا للتجارة؟ ومتى سيعود مينائها إلى صدارة موانئ العالم؟ متى سيتوقف الأغبياء عن ضخ السلاح والديناميت إلى وهادها وأزقتها؟ متى سيتوقف الزج بالتدين المغشوش إليها؟ متى ستعود أماً وملاذاً لكل اليمنيين؟ فهي مهد مدنيتهم، وأمل حاضرهم ومستقبلهم.

"من موطن الثلج زحّافاً إلى عدنِ

خبّت بي الريح في مهر بلا رسن

كأسي على صهوة منه يصفقها

ما قيض الله لي من خلقه الحسن

من موطن الثلج من خضر العيون به

لموطن السمر من سمراء ذي يزن

من كل ملتفة الكشحين ناعمة

ميادة مثل غصن البانة اللدن"

قالها محمد مهدي الجواهري عندما قدم إلى عدن من براغ، لكني أنا لم أقدم من موطن الثلج، بل من القرية ذات الصيف الحار، وصيفنا مقارنة بصيف عدن جنة من برد، كنا نعيش في النعمة والهواء العليل ولا ندركها، حتى ريح عدن في الليل تلفح سخونته وجهي، كأني أقف بجوار التنور، هذه عدن التي عاث فيها التاريخ فساداً! بالتأكيد هذا الحر ناتج عن التاريخ الملتهب.

 

يجلس في ناصية الشارع رجل في منتصف العمر وأكثر قليلا سند ظهره على عمود الإنارة، ويفترش كرتوناً تحته، وأمامه مسجلة ناشيونال وارد جيبوتي ويسمع كمن هو في غرفته إلى صوت محمد مرشد ناجي وهو يغني:

"يا ميناء التواهي حبك في القلوب

يا عمري اللي ساهي والأيام تذوب

تذكر الطفولة والشبة والرجولة

والحافة والشوارع ووقتنا اللي ضايع"

اقتربت منه نهرني بشده، وقال "اصبح للمصابحة" قلت في نفسي مجنون هذا وإلا عاقل وغادرت، تركته أغلقت عقلي المثقل بصداع الأسئلة وتركت القيادة لأقدامي فأعادتني، مع أذان الفجر، تسللت نحو الفراش وعدت كما يعود دراكولا إلى التابوت، ورأيت فيما يرى النائم أني صليت الفجر معهم. حسبت أظن أنهم اكتشفوا غيابي، لكن لا أحد عاش ليلته مثلي، هكذا حدثت نفسي وأنا أخلد للنوم، اتخيلهم يوقظونني للذهاب إلى الساحل القريب للسباحة قبل بزوغ الشمس، واختفيت في الجانب الأخر من السكن، وطرحت راسي غافياً، استيقظت على أصوات الغربان المزعجة غاق غاق غاق، لم أصدق أن أصوات كل هذه الغربان في عدن، اعتقدت أن الريف هو موطن الغربان لا المدن، وسلام الله على غربان القرية؛ قلة قليلة يعشون في الحيود العوالي، ولا يتسببون في ازعاج أحد. فتحت عيني ونظرت نحو الشجرة القريبة من البناء، وإذا بها تعج بالغربان، كيف أن أهل هذه المدينة يتحملون كل هذا الإزعاج؟ اللعنة على الغربان، من أين لي بفأس لأقطع أم هذه الشجرة من الجذور؟ استيقظت مع القوم وبدأ برنامج اليوم التالي للرحلة المدرسية.

 

مصدر النص

 

expanded image