موكا .. الرشفة الأولى التي أبهجت العالم
وُجدت شجرة البن في اليمن كجزء مما تزخر به الطبيعة اليمنية من أشجار وبيئة مميزة وفريدة من نوعها. ومع ذلك، لا يتوفر تاريخ محدد يبين بدقة متى بدأ اليمنيون بزراعة شجرة البن والعناية بثمرتها الساحرة. لكن، يُرجح أن زراعة البن تعود إلى اليمن القديم في عهد مملكة سبأ، التي ازدهرت في الألفية الأولى قبل الميلاد، وامتدت حدودها لتشمل الجزيرة العربية وشرق إفريقيا.
كانت أراضي مملكة سبأ القديمة، التي تشمل اليوم اليمن وامتدادها الطبيعي والتاريخي في مرتفعات شبه الجزيرة العربية وبلاد الحبشة، موطنًا لشجرة البن. ومن هنا ظهر خلاف بين المختصين بتاريخ القهوة حول مكان ظهورها الأول: هل كان في اليمن أم في الحبشة؟ إلا أن هذا الخلاف يعتبر شكليًا، حيث إن شجرة البن (القهوة) نشأت ضمن حدود مملكة سبأ القديمة، مما يجعل مكان اكتشافها الأول أمرًا ثانويًا وغير ذي أهمية كبيرة.
استخدم اليمنيون القهوة عبر مراحل مختلفة من التاريخ. وما نُقل إلينا عن طريقة استخدامهم للقهوة بعد تحميصها يعود إلى نحو ألف عام مضت. ومع ذلك، يُحتمل أن القهوة كانت تُستخدم لأغراض مختلفة عما نعرفه اليوم، مثل استخدامها في الصناعات العشبية الطبية التي اشتهرت بها اليمن، وأيضًا في صناعة العطور. وقد أُطلق على أماكن تقديم القهوة في اليمن اسم "المقهاية"، والتي تحولت حديثًا إلى " مَقْهًى "، وجمعها " مَقَاهٍ ". ولاحقًا، انتشرت هذه التسمية عالميًا.
أُطلقت كلمة "قَهْوَةُ" في اللغة العربية القديمة على الخمر، كما تشير القواميس. وامتدت دلالتها لتشمل مشروبات أخرى مثل اللبن. كما أنها كانت تُستخدم قديمًا كصفة لوصف المترفين الذين يعيشون في رفاهية ووفرة في مواطنهم الخصبة. وبحسب ما ورد في لسان العرب: "وإنَّهُ لفي عَيْشٍ قاهٍ أَي رَفيهٍ بيِّنِ القُهُوَّةِ والقَهْوةِ، وهم قاهِيُّون."
وفي اليمن اليوم، تُستخدم مفردة "قهوة" للإشارة إلى شرب الشاي، وشرب اللُّبَن، وشرب قشر البُن، وغيرها من المشروبات الساخنة كالزنجبيل. ويخطئ من يذهب إلى أن كلمة "قهوة" مأخوذة من التركية "kahveh"، التي تُرجمت إلى الإيطالية "caffè" ومنها إلى الإنجليزية "coffee"، إذ لا أصل لهذه الكلمة في التركية أو اللغات الأخرى، بل هي مأخوذة من اللغة العربية، وتحديدًا من اللهجة اليمنية.
القهوة يمنية
يحاول البعض نزع الهوية "اليمنية" عن القهوة بالادعاء أنها "ليست يمنية"، ولكن الحقيقة أنها منتج يمني خالص، متجذر بعمق في التراث اليمني. اليمن الكبير لم يكن محصورًا في حدود الجمهورية اليمنية الحالية، بل امتد تاريخيًا ليشمل الممالك اليمنية القديمة معين، وسبأ، وأوسان، وحِمْيَر، التي حكمت الجزيرة العربية بأكملها وأجزاء من شرق إفريقيا.
لذلك، فإن القهوة (البُن) تُعد منتجًا يمنيًا أصيلًا، حمله اليمنيون معهم عبر هجراتهم من اليمن الكبير إلى مختلف أرجاء الوطن العربي. وعليه، فإن نسبتها إلى بلدان أخرى يُعد أمرًا غير دقيق، لا سيما تلك التي كانت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة والدولة اليمنية عبر العصور المختلفة.
نبيذ الغيوم
عندما أطلقنا على القهوة اسم "نبيذ الغيوم"، فإننا نُشير إلى القهوة اليمنية التي تُزرع في قمم جبال اليمن المرتفعة، حيث ُ تُزرع وتُقطف القهوة من المرتفعات الشاهقة التي تمر السحب من تحتها. وحين تشربها، تشعر وكأنها تأخذك في رحلة فوق الغيوم.
تتميز القهوة اليمنية من نوع "أرابيكا" بارتفاع نسبة الحموضة فيها مقارنة بغيرها من أنواع القهوة. هذه الحموضة قريبة من حموضة بعض الفواكه، مثل أنواع الكرز، مما يضفي على مذاقها طابعًا مميزًا يجمع بين الحموضة والنكهة الفريدة. هذه الحموضة العالية تُسهم في تعزيز الرائحة العطرية الغنية التي تميز القهوة اليمنية، وهي خاصية لا يدركها إلا من تذوقها وشم رائحتها بنفسه.
لهذا السبب، تستحق القهوة اليمنية لقب "نبيذ الغيوم" الذي انفردت به، بفضل خصائصها المميزة التي تجعلها فريدة بين أنواع القهوة العالمية.
الشاذلية
ارتبطت القهوة بطقوس التصوف اليمني، حيث استخدمتها الفرق الصوفية لمساعدة مريديها على السهر وقيام الليل. ومن بين هذه الفرق، اشتهرت فرقة الشاذلية التي نُسبت إلى شيخها المتصوف علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي.
تميز الشيخ الشاذلي باستخدام القهوة اليمنية في طقوسه، وساهم في نشرها خلال رحلاته المتعددة من موطنه في المخا (Mocha) إلى مناطق مختلفة من الجزيرة العربية والشام ومصر. ومن هنا، أُطلق على القهوة اسم "الشاذلية" نسبة إليه، تعبيرًا عن ارتباطها بطريقته الصوفية وتأثيره الكبير في انتشارها.
من المخا إلى كل العالم
بدأت القهوة رحلتها من مدينة المخا في اليمن إلى مكة والمدينة، ثم انتقلت إلى مصر والشام وإسطنبول منذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي. خلال هذه الفترة، واجهت القهوة جدلًا فقهيًا، حيث حرّمها بعض الفقهاء، بينما رفض آخرون هذا التحريم وأجازوا شربها. في هذا السياق، ألف عبد القادر الجزيري الحنبلي كتابه الشهير "عمدة الصفوة في حِل القهوة" في القرن السادس عشر الميلادي، للدفاع عن شرعية تناول القهوة.
لم يكن الأوروبيون على معرفة بالقهوة حتى القرن السادس عشر، عندما تعرفوا عليها لأول مرة كنبتة طبية. وقد وصفها الطبيب الألماني ليونهارت راوولف في كتابه عن رحلته إلى أجزاء من الوطن العربي عام 1573 بأنها: "مشروب أسود مثل الحبر، مفيد ضد العديد من العلل، لا سيما أمراض المعدة. يشربه مستهلكوه صباحاً في كأس من الخزف-الحيسي-، يمر من واحد إلى آخر، حيث يرتشف كل شخص رشفة رنانة. وهو مكون من ماء وفاكهة شجيرة تسمى البن."
في القرن السادس عشر، لعب العثمانيون دورًا مهمًا في نقل القهوة من المخا إلى أوروبا والعالم، حيث تحولت القهوة إلى سلعة تجارية مطلوبة. كما ساهمت القوى الاستعمارية الأوروبية في نشر زراعة البن اليمني، حيث قامت دول مثل البرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا بنقل شتلات البن اليمني إلى مستعمراتهم.
- البرتغاليون نقلوا زراعة البن إلى البرازيل،
- الإسبان إلى أمريكا الوسطى،
- الهولنديون إلى سومطرة في إندونيسيا وسيرلانكا،
- الفرنسيون إلى منطقة الكاريبي.
بهذه الطريقة، أصبحت القهوة اليمنية نقطة البداية لنشر زراعة البن عالميًا، ولا تزال المخا رمزًا لهذا التاريخ العريق.
أرابيكا وروبوستا
هناك نوعان رئيسيان من القهوة على مستوى العالم يُنتجان بشكل تجاري. النوع الأول هو أرابيكا (Arabica)، الذي يُعرف بالقهوة العربية، وهي في الأصل القهوة اليمنية تحديدًا دون منازع. يُعد هذا النوع الأكثر انتشارًا عالميًا نظرًا لارتفاع الطلب عليه واستهلاكه اليومي من قِبل العديد من الشعوب. القهوة العربية يمنية المنشأ، وقد زُرعت لأول مرة في أراضي اليمن القديم التي امتدت من الجزيرة العربية إلى شرق إفريقيا.
أما النوع الثاني فهو روبوستا (Robusta)، الذي بدأ انتشاره في القرن التاسع عشر، وموطنه الأصلي إفريقيا الاستوائية. يتميز هذا النوع بمذاقه الأكثر مرارة مقارنة بأرابيكا، وبمحتواه العالي من الكافيين.
بالإضافة إلى هذين النوعين، توجد أنواع أخرى من القهوة، لكنها لم تحظ بالانتشار ذاته بسبب قلة إنتاجها وانخفاض الطلب عليها في الأسواق العالمية. ومع ذلك، تظل أرابيكا، وخاصة اليمنية منها، الأكثر تفردًا وتميزًا.
النكهة الزكية
أصبحت القهوة مشروبًا عالميًا يستهلكه ملايين البشر، الذين يستهلون يومهم برائحتها الساحرة التي أصبحت رمزًا للصباح. تنافست شركات عالمية في تسويقها وتقديمها، مضيفةً إليها نكهات مختلفة لتلبي أذواق الشعوب المتنوعة.
لكن القهوة اليمنية احتفظت بأصالتها وتميزها مقارنة بكل الأنواع الأخرى. فهي، كما يصفها الخبراء، تتميز بنكهة ترابية (Earthy) ورائحة زكية (Aromatic)، بالإضافة إلى طعم خفيف يميل إلى نكهة الشوكولاتة.
ولذلك، عندما أضاف أصحاب المقاهي الشوكولاتة إلى قهوتهم المستوردة من بلدان أخرى، أطلقوا عليها اسم "موكا" (Mocha) تيمّنًا بالقهوة اليمنية، في محاولة لاستعادة الطعم الأصيل والمذاق المميز الذي اشتهرت به القهوة المنتجة في اليمن.
المذاق الفريد
تلجأ بعض شركات إنتاج القهوة المختصة حول العالم إلى وسائل معقدة للحصول على قهوة خالية من المرارة. من بين هذه الوسائل، إطعام حبوب القهوة لبعض الحيوانات مثل قطط الزباد، والفيلة، أو الطيور مثل غوان، المعروفة أيضًا باسم طيور جاكو. تتناول هذه الحيوانات حبات البن بقشورها، وتمررها عبر جهازها الهضمي، لتخرج الحبوب خالية من القشور بعد عصرها في بطونها. هذه العملية تهدف إلى التخلص من المرارة، مما يجعل هذا النوع من القهوة عالي التكلفة، بسبب الجهد والزمن الذي يتطلبه إنتاجه.
على العكس من ذلك، القهوة اليمنية بطبيعتها تتميز بمذاقها الحلو دون الحاجة إلى مثل هذه العمليات المعقدة. يعود ذلك إلى طبيعة اليمن، بتضاريسه المتنوعة وبيئته الخصبة، التي جعلت منه موطنًا لإنتاج القهوة الأصلية في العالم.
ما تنتجه بقية البلدان ليس سوى قهوة مستنسخة من الأصل اليمني. ورغم أن شتلات القهوة اليمنية انتقلت إلى مختلف أنحاء العالم ضمن ما يُعرف بـ "حزام البن"، إلا أن بيئات الزراعة الجديدة لا يمكنها أن تحاكي خصوصية بيئة اليمن ومناخه وتنوع طقسه، مما يجعل القهوة اليمنية تحتفظ بتفردها ومذاقها الأصيل.
القشر
في اليمن السعيد، يتم فصل حبوب القهوة عن قشورها بعناية. ومنذ القدم، كان تصدير حبوب البن الصافية يتم لسببين رئيسيين:
1. الحفاظ على الاحتكار: لضمان عدم إعادة زراعة البن في مناطق أخرى خارج اليمن، وهو هدف استراتيجي يهدف إلى إبقاء زراعة شجرة البن محصورة في اليمن، مما يمنحه مكانة ريادية في تصدير القهوة عالميًا.
2. تحقيق المكاسب الاقتصادية: بيع حبوب البن الصافي ذات القيمة المرتفعة، مع استخدام قشور البن محليًا، وهو ما يُعتبر خيارًا اقتصاديًا بحتًا.
أشار الرحالة الإيطالي رينزو مانزوني، خلال زيارته لليمن بين عامي 1877-1878، في كتابه "اليمن: رحلة إلى صنعاء"، إلى أن اليمنيين كانوا يستهلكون القشر محليًا ويصدرون حبوب البن الصافية إلى العالم، مما يعكس أهمية القهوة وقشورها في الحياة اليومية والاقتصاد اليمني آنذاك.
الرسالة
القهوة اليمنية ليست مجرد مشروب، بل هي رسالة يحملها اليمنيون إلى العالم. إنها تعبر عن مضامين السلام والمحبة، وتُجسد المذاق الفريد الذي يميز اليمن كموطن أصيل للقهوة. فاليمن لم يكن يومًا مجرد بلد منتج للبن، بل كان مركزًا للتجارة وحلقة وصل تاريخية بين الشرق والغرب، مما جعل قهوته سفيرًا عالميًا لتراثه العريق وثقافته الغنية.
*ملاحظة: الخرائط الدقيقة - إنتاج موكا فالي