مساء رمضاني جميل يعكس طهارة قلوبكم، ورمضان مبارك لكم جميعًا. نطل عليكم اليوم، الثالث من مارس، في يوم القهوة اليمنية، يوم موكا، أو كما أحب أن أسميه يوم نبيذ الغيوم، حيث نحتفي بهذا الإرث العظيم، ليس كمجرد مناسبة عابرة، بل كمحطة تأمل في هويتنا اليمنية وأصالتنا الحضارية، وكحقل مقاومة ضد محاولات الطمس والتزييف. هويتنا ليست شعارًا يرفع، بل امتداد تاريخي متجذر، يقف في وجه محاولات حصرها في هويات ضيقة، أو سرقتها تحت دعاوى شوفينية تتجاهل الواقع والتاريخ والمستقبل.
منذ عشية 16 فبراير الماضي وحتى 8 مارس الجاري، نعيش - وسنظل نعيش - في ماليزيا أجواءً يمنيةً خالصة. وها هي "يمنيون"، بعد سبع سنوات من إعلان فكرتها، تزهر، وقد احتفينا بها مع تدشين فعالية القهوة اليمنية. لم تكن رعاية سعادة السفير الدكتور عادل باحميد، عميد السلك الدبلوماسي في ماليزيا، لهذا الحدث مجرد دعم رسمي، بل كانت رسالة واضحة بأن الدبلوماسية لا تقتصر على اللقاءات الرسمية والخطابات والاتفاقيات، بل تمتد إلى الحضور الفعلي والمشاركة الصادقة بين أبناء الجالية اليمنية في الفعاليات التي تعكس الهوية اليمنية وتعزز ارتباطهم بجذورها..
وفي هذا السياق، نورد بعضًا مما جاء في كلمته خلال حفل تدشين يوم القهوة اليمنية عشية 16 فبراير الماضي:
"الدفاع عن الهوية اليمنية جزء لا يتجزأ من الدفاع عن الوطن، فهي تمتد عبر الزمان والمكان وتشكل جوهر انتمائنا. القهوة ليست مجرد محصول أو مشروب، بل انعكاس لحضارة ضاربة في عمق التاريخ، تتجسد في الأرض والإنسان والانتماء. الدبلوماسية الثقافية قد تحقق ما تعجز عنه السياسة التقليدية، فجلسة قهوة يمنية قد تفتح آفاقًا أوسع من الاجتماعات الرسمية. نشيد بجهود مؤسسة يمنيون الثقافية في إبراز الملامح الثقافية لليمن، فهذا العمل النوعي يساهم في ترسيخ الهوية الوطنية وتعريف العالم بحضارتنا. السفارة اليمنية في ماليزيا مستمرة في دعم الفعاليات الثقافية التي تعزز من ارتباط اليمنيين بجذورهم، وتعكس صورة مشرقة عن اليمن."
نحتاج إلى سفراء ودبلوماسيين يفهمون أن الهوية ليست شعارًا يُرفع، بل انتماء يُمارس. الدفاع عن الوطن لا يكون فقط على الحدود أو في المحافل الدولية، بل أيضًا بحماية تاريخه وإرثه وهويته من التشويه والسرقة والانحراف.
رسائل بمناسبة يوم القهوة اليمنية:
- إلى الأعزاء في القنوات ووسائل الإعلام: باسم مؤسسة يمنيون الثقافية، نتقدم لكم بخالص الشكر والامتنان لدعمكم وتغطيتكم لاحتفال يوم التدشين لفعاليات يوم القهوة اليمنية. أنتم شركاء في أي نجاح تحقق، فبجهودكم وإيصالكم صوت اليمن وهويته، تساهمون في ترسيخ هذا الإرث الثقافي ونشره للعالم. دعمكم الإعلامي ليس مجرد نقل للأحداث، بل هو مشاركة فعلية في تعزيز الهوية اليمنية وإبراز ملامحها الحضارية.
- إلى شركائنا في هذا العمل: من مؤسسات رسمية، هيئات مدنية، ومدارس، واتحادات، ورجال أعمال، وشركات القطاع الخاص، أثبتم أن الثقافة لا تُفرض بقرارات فوقية، بل تنبع من قلوب الناس وإيمانهم بها. هذا الجهد التشاركي، الذي جمع الكل، يعكس روح الانتماء والمسؤولية تجاه الهوية اليمنية. إن نموذج العمل الجماعي الذي قدمتموه هو ما يحتاجه اليمن ليبقى متجذرًا في تاريخه ومنفتحًا على المستقبل.
- إلى سفراء يمنيون: الطلاب الذين يسعون بعلمهم لبناء يمن المستقبل، إلى المعلمين الذين ينيرون دروب الأجيال، إلى العمال الذين يكدّون بعرقهم ليحفظوا كرامتهم وكرامة أسرهم، إلى رجال الأعمال الذين يسهمون في دعم الاقتصاد ونقل صورة اليمن الحضارية، إلى الناشطين الذين يرفعون الصوت باسم الوطن، وإلى الأكاديميين الذين ينقلون إرثه ومعرفته إلى العالم – أنتم الوجه الحقيقي لليمن. لا تحتاجون إلى ألقاب أو أوسمة، بل إلى إيمان بأن هذا الوطن يستحق منّا كل الجهد.
- إلى مزارعي القهوة اليمنية: أنتم الحراس الحقيقيون لهذا الإرث. في المدرجات الجبلية، حيث تُسقى أشجار البن بعرق جباهكم، تولد الحكاية الحقيقية للقهوة اليمنية. جهدكم هو الأساس، وعطاؤكم هو ما ينبغي الاحتفاء به في كل فنجان قهوة يمني. أنتم خط الدفاع الأول عن القهوة اليمنية، وأي احتفاء بهذا المنتج دون الاعتراف بجهودكم هو احتفاء ناقص.
- إلى تجار القهوة والعلامات التجارية: أنتم لا تسوقون مجرد سلعة، بل تقدمون للعالم جزءًا لا يتجزأ من الهوية اليمنية. تقع على عاتقكم مسؤولية الحفاظ على أصالة المنتج، ونقله للعالم كما هو، بطعمه الأصيل ورائحته التي تحمل ذاكرة الأرض.
· إلى النشطاء والمبادرات الداعمة: القهوة اليمنية ليست مجرد مشروب، إنها لغة، إنها تاريخ، إنها وسيلة للدبلوماسية الناعمة، وللمقاومة الثقافية ضد محاولات الطمس والتشويه. أنتم جنودٌ في هذه المعركة، وأصواتكم تصنع الفرق. استمروا في حمل هذه القضية، لا كموضة مؤقتة تنتقلون إلى غيرها عندما تشعرون بالملل، بل كرسالة حياة.
· إلى من يحاولون تحريف تاريخ القهوة اليمنية: القهوة ليست مجرد سلعة يمكن السطو عليها ثقافيًا، بل هي إرث حضاري عريق، تجري في كل قطرة منه دماء وعرق اليمنيين. محاولاتكم لتحريف هذا التاريخ لن تبدل الحقيقة، ولن تمحو اسم اليمن من ذاكرة القهوة. فالقهوة اليمنية ستظل تحمل هوية أصحابها الأصليين، تمامًا كما حفظت الجبال تراكمات الزمن في مدرجاتها.
الهوية والانتماء: حقائق لا تتغير
إن يوم القهوة اليمنية هو تسمية تتسق مع ما يُعرف بـ "اليوم العالمي للقهوة"، بكل بساطة ووضوح، ولا يمكن تصنيفه كيوم وطني كما يعتقد البعض. فالفهم الصحيح للوطنية والهوية والانتماء يستدعي استيعاب المعاني المشتركة التي تجمع اليمنيين، بما في ذلك مفهوم الهوية والمواطنة والدولة والأمة. إن تعزيز هذه القيم يتطلب وعيًا أعمق بمكتسبات الشعب اليمني وثوابته الراسخة، والإيمان بها مكتملة غير مجزأة، بعيدًا عن التأويلات التي تخرج عن سياقها وتكرّس تصورات ضيقة لا تخدم الهوية الوطنية الجامعة.
"اليوم الوطني" هو قرار تعتمده دولة المواطنة، وليس من حق أي جهة خارج إطار الدولة أن تفرض تسميات أو ترسم قرارات بهذا الشأن. فالوطنية الحقيقية تُبنى على ممارسات تعزز وحدة المجتمع وتخدم مصالحه، وليس على سلوكيات تكرّس الفوضى وتعمّق الانقسامات. أما من يتحدث عن مفاهيم التجارة والاقتصاد والسوق، فعليه أن يدرك أن الأنشطة غير المشروعة، التي تعيق الاستقرار وتمس أمن المجتمعات، لا يمكن أن تكون أساسًا لتنمية اقتصادية حقيقية. فالتجارة تُبنى على القانون والنظام، وليس على القرصنة وقطع الطرق أو زعزعة الأمن والاستقرار، إذ لم يكن لقطاع الطرق يومًا دور في بناء الدول، بل غالبًا ما يكونون سببًا في معاناة الشعوب.
على الجميع أن يتحرروا من الخرافات، ومن الانغماس في النزعات التي تعزز الانقسام، ومن التمترس خلف تجار الحروب، وأن يعملوا على بناء وعي وطني قائم على المواطنة المتساوية، حيث لا تفاضل بين الأفراد إلا بالجهد والعمل والإسهام في خدمة المجتمع. فالوطنية الحقيقية لا تُبنى على الامتيازات اللاهوتية الضيقة أو الانتماءات الأسرية، بل على الالتزام بمصلحة الجميع وتعزيز قيم الحرية العدالة والمساواة.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك من أضاع البوصلة في متاهات المنافي، فخُيِّل له أن الأوطان تُبدَّل كما تُبدَّل الثياب، وأن الجذور يمكن اقتلاعها بريح الاغتراب. وقفوا أمام مرايا الغربة يبحثون عن وجوه جديدة لأنفسهم، يطمرون أعينهم في سراب العالمية، لكنهم كلما حاولوا طمس ملامحهم، عاد ظل اليمن يلاحقهم، كوشم قديم يأبى الزوال. ظنوا أن الانتماء يمكن أن يُستبدل بإقامة مهما كان نوعها، وأن الولاء يمكن أن يُشترى بوثيقة سفر مختلفة، لكنهم لم يدركوا أن من يدفن هويته بيديه، سيظل يسمع صدى صوته يُنادِيها، حتى وإن تظاهر بالصمم. هؤلاء لم يُنكروا اليمن وحده، بل أنكروا أنفسهم، وحين يفيقون، سيجدون أنفسهم غرباء حتى في وجوههم الجديدة.
الهوية اليمنية ليست ثوبًا يُخلع، ولا رقعة يمكن محوها. إنها نقش على الروح، تسكن الإنسان أينما ذهب. من يعتقد أن الانتماء يُستبدل، يكتشف مع الوقت أن هويته تلاحقه، تظهر في لغته، في ملامحه، في ذاكرته التي لا يستطيع محوها.
في يوم القهوة اليمنية، نحن لا نحتفي بماضينا فقط، بل نصنع مستقبلًا تتوارثه الأجيال. هذا اليوم ليس مجرد مناسبة، بل مسؤولية تستدعي منا جميعًا أن نحمل هذا الإرث بوعي. لنكن جميعًا جزءًا من سرده، زراعًا وصناعًا وتجارًا وحراسًا لقيمه. فلنحافظ على هذا الجزئية المرتبطة بهويتنا، ولننقلها إلى العالم كما هي: أصيلة، عريقة، لا تُطمس ولا تُسرق، بل تُخلد مع كل رشفة قهوة يمنية صافية.
في هذا اليوم نحن لا نحتفي بمشروب، بل نحتفي بهوية. فالقهوة ليست مجرد محصول زراعي، بل هي وثيقة إثبات لانتمائنا لهذه الأرض، تمامًا كما سطرتها ملحمة الحب والبن، وتسطرها قصائد الشعر الحميني، وألحان الحقول، ورائحة المطر على المدرجات الزراعية في جبالنا العتيدة.
كلما رفعنا فنجان قهوتنا، فإننا لا نحتسي مجرد شراب، بل نرفع راية انتمائنا لليمن الكبير، لليمن الذي يرفض أن يمحى، لليمن الذي يرفض أن يكون إلا عظيمًا.
لكم جميعًا، في يوم نبيذ الغيوم، فنجان من الاعتزاز والانتماء.