(أيها اليمنيون في المنافي: سيأتي يومٌ وتدركون أنكم مضطرون للعودة)
كان لينين أمة في قومه وبلاده. قد يتحوّل الفرد إلى الكل في لحظة فارقة، حين يكون مستعدًا، وحين ينهض بمسؤوليته الكاملة.
سيقول الواهم: وماذا يفعل فرد أعزل، فقير، تائه، عائد من منفاه، أمام جموع مدججة بالمال الحرام والسلاح؟
لكن الواقع قال غير ذلك في أكثر من موضع. سنكتفي هنا بما نقله لنا نيكوس كازانتزاكيس في مذكراته عن لينين ففيه ما يستحق التأمل:
"تناطحَ المعجزةُ الواقع. تفتح فيه ثغرةً وتدخل.
حين آن الأوان، جمع لينين خِرْقه، وأسماله، وجمع مخطوطاته في رزمةٍ كبيرة، وربط كلَّ ممتلكاته الدنيوية في صُرَّة، وودّع صاحب منزله، الإسكافي السويسري الذي كان قد أجَّر له غرفةً في سويسرا.
قال المالك، وهو يمسك بيد لينين ويتطلّع إليه بإشفاق:
- إلى أين تذهب يا فلاديمير إيليتش؟
- أيُّ جنونٍ يجعلك تفكر في العودة إلى روسيا؟
- ما الذي ستفعله هناك؟
- هل تعتقد أنك ستجد غرفةً في روسيا، أو عملًا؟
- خذ بنصيحتي يا فلاديمير إيليتش، وعِش بسلامٍ هنا.
أجاب لينين: يجب أن أذهب. أنا مضطر.
- مضطر لماذا؟
مضطر. كرر لينين بهدوء.
- لكنك دفعت إيجارك كله، والشهر لم ينتهِ بعد. أنت تعرف طبعًا أنني لن أعيد لك الفرق.
أجابه لينين: لا يهم. أبقِ الفرق لك. أنا مضطر إلى الرحيل.
ورحل. وضع قدمه على الأرض الروسية، وهو يرتدي قبعته الصغيرة، وقميصه النظيف المهترئ، وسترته البالية. جيشٌ مؤلف من شخصٍ قصيرٍ، شاحبٍ، وأعزل. وكان يقف في مواجهة الأرض الروسية الشاسعة، والموجيك الأشرار، والأرستقراطيين المعربدين، والكهنة ذوي القوة الطاغية، والحصون، والقصور، والسجون، والبركات، والقوانين القديمة، والأخلاق القديمة، والسوط، والإمبراطورية الرهيبة المدججة بالسلاح.
هناك وقف بقبعته الصغيرة، وبعينيه المنغوليتين الدقيقتين اللتين تحدّقان بثبات في الجو، بينما كان داخله شيطانٌ يرقص ويصفر، ويصرُّ بأسنانه ويتكلم:
"هذا كلّه لك يا لينين، إنني أهبك إيّاه مجانًا. يكفي أن تقول عبارةً واحدة،
قل العبارة السحرية التي كنت أُمليها عليك طوال تلك السنين الطويلة:
يا عمّال العالم، اتحدوا! قلها.
وعندها، فإن القياصرة، والقساوسة ذوي اللحى العنزية، والجدائل الذهبية، والكروش المتخمة والأنيقة، سيسقطون كلّهم على أقفيتهم، بنفخةٍ واحدة.
امشِ على جثثهم يا فلاديمير إيليتش، إلى الأمام يا فتى، دسْ على جثثهم واصعد.
ارفع العلم الأحمر على الكرملين. حطّم جماجمهم بالمطرقة، واقطع أعناقهم بالمنجل!"
وراح لينين يسأل، وهو يُصغي إلى شيطانه الداخلي بقبضتين مشدودتين:
- من أنت؟ قل لي اسمك. أريد أن أعرف من أنت.
"أنا المعجزة"، أجاب الشيطان، ونطح روسيا بقرنيه".
أيها اليمنيون في المنافي... أيها المضطرون للعودة. يا من تعيشون في القاهرة التي تُصغي لكم، لكنها لا تحتضن آمالكم، وفي عمّان التي تُخفف عنكم وطأة الغربة، لكنها لا تفتح لكم باب المبادرة، يا من علقتم في كوالالمبور، وفي إسطنبول، وفي شوارع دلهي وجاكرتا وبيشاور، وفي زوايا برلين وستوكهولم، وفي أرصفة باريس ولندن وجنيف، وفي برد تورونتو وضباب نيويورك، وفي شقق أديس أبابا ونيروبي، ومخيمات السودان واللاجئين في جيبوتي، وفي لاهاي، وفرانكفورت، ومرسيليا، ومدريد، وواشنطن، وبروكسل، وسيدني، ومونتريال، وكوبنهاغن، وأوسلو، وروما... في انتظارٍ طال أكثر من اللازم.
أنتم مضطرون للعودة. لا لأن الطيران قد أصبح متاحًا، بل لأن الهوية اليمنية التي حملتموها وجعاً في منافيكم ستنهار بعد جيل على أرجح احتمال!، ولأن الأوطان لا تُورَّث، وستظلون يمنيو الأصل في كل كونترات العالم، ولأن اليمن لن يُبنى بالجرين كارد، ولا بتصاريح الإقامة المؤقتة والدائمة، ولا حتى بالحصول على الجنسية، ولن تُستعاد هويته من وراء الحدود، ولن تُعاد صياغته إلا على أيديكم أنتم إذا قررتم، وأنتم تعلمون إنها لن تستعاد على طاولات المفاوضات الوهمية.
لقد رأيتم العالم من نوافذ جنيف وستوكهولم، ومن شقق المرضى والمتعبين في الهند وأبراج كدست المنهكين في ماليزيا، وكتبتم رسائل الوطن من مقاهي نيروبي، وتنفستم الغربة والقات من مخيمات إثيوبيا حتى شوارع روما.
لكنكم تعرفون، دون أن يخبركم أحد: إن مكة والمدينة ليستا غربة، بل بعضٌ من وجداننا. وإن الرياض وجدة ليستا منفى، بل مرآتان نرى فيهما تعبنا وكرامتنا. وذكريات أسلافنا، كما أن أبو ظبي والدوحة وظفار والكويت والمنامة ليست مدن لجوء أو هجرة أو عمل، بل محطات كريمة وقفنا فيها على أقدامنا، واحتضنتنا فيها هويتنا وجيناتنا، كما لو أننا عدنا إلى امتداد الذات في الأرض والأهل.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة كما هي :الوطن لا يُستبدل، ولا يُؤجَّر، ولا يُورَّث في المنافي. لهذا، نحن مضطرون للعودة. لا رفضًا لمن فتحوا لنا أبوابهم، بل وفاءً لما أغلقناه خلفنا من أبواب بيوتنا، وما أجلناه من أحلامنا، وما نسيناه من أسمائنا.
أنتم مضطرون للعودة. لا إلى اليمن الممزق الفقير المحدود، بل إلى اليمن الكبير: يمن التاريخ، والحضارات المتعاقبة، والمدن البحرية، والجبال العالية، يمن الجغرافيا الكاملة، والهوية الجامعة، لا يمن الطوائف ولا الخرائط المستوردة. يمن ما قبل سايكس بيكو، ويمن ما بعد سقوطه. اليمن الذي لا يُقاس بعدد الوزارات، ولا يُختصر بكرسي رئاسة، بل يُبنى على يد أمة منفية قررت أن تعود.
ستعودْ، كما عاد لينين، ليس كأيديولوجي أضاع شبابه بين الأفكار والمنافي، بل كضرورة تاريخية. ليس ومعك جيش، بل ومعك قناعة. فأنت كل الجيش .ليس لترث ما بقي، بل لتبدأ من تحت الرماد. عُد بقبعتك، بصلعتك، أو بما تبقّى عليها من شعرك الفضي الذي طالما حاولت أن تخفيه، وما تبقّى من أسمالك، بمذكّراتك، وبجراح كبريائك. وقف على ترابك وقل كما قال لينين ذات يوم: أنا مضطر.