الصورة الشعرية في شواطئ الفضول 1
لمحة عن طبيعة خيال الفضول
شواطئ الأغنيات
طارق السكري

الصورة الشعرية حركة عقلية ونشاط وجداني يشبه تماما حركة أمواج البحر . يكون البحر ساكنا كالموت وإذا بموجة تنبعث منه قائمة ترتفع وتسقط فتحدث سلسلة من المياه المتكسرة والمتموجة . تماما كما يحدث في عالم الشاعر الداخلي . انعكاسُ موقف ما يمر به الشاعر يحدث هزة واضطرابا في سكون الشاعر وقواه النفسية ومداركه الحسية .
فالشاعر الجاهلي امرؤ القيس كان ينعم بزهو الشباب وملذات الحياة من خمر ومال ومغامرات ليلية فهو ابن ملك . وفي حكاية طويلة قتل بنو أسد أبيه ، فاسودت الدنيا في عينيه وانقلب الحال من طالب لذة إلى طالب ثأر . وأصبحت الدنيا العامرة في داخله من أمنيات وأخيلة وأحلام وردية أطلالاً أسيفة يعمها الغضب والرغبة بالانتقام . فدأب ليلا ونهارا يجوب الأرض ويشعل المعارك ويستنفر الناس ويطلب المدد تارة وهكذا . وكان إذا مر بتلك الجبال والبوادي والبيوت التي كانت تنبض بالصخب والحياة ، انقدحت في عالمه الداخلي جذوةَ التذكار والحنين لأيام القصف والشباب ، فوقف ساعة يتأمل مذكِّرا قومه بمُلكهم المسلوب ومَلكهم المقتول غيلة .
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ .. بِسِقطِ الِّلوى بين الدَّخولِ فحوْمَلِ
فتوضحَ فالمقراةُ لم يعفُ رسمُها .. لِما نسجتها من جنوبٍ وشمألِ
ترى بعَر الأرآمِ في عرصاتها.. وقيعانها كأنهُ حَبُّ فلفلِ
فنحن نرى الدخول وحومل وتوضح والمقراة جبال بنجد حيث كان يمتد إليها حكم أبيه الملك مما يؤكد أن معلقة امرئ القيس كانت تعمل في ذاكرته أحاسيسا وأفكارا متموجة غير مستقرة لحظة ألقيت مسؤولية جمع ملكه والانتقام لأبيه على عاتقه ، لكنها – أي تلك المشاعر والرؤى – كانت تنتظر ساعة صفاء يُوقد فيها شرارةَ الإبداع موقفٌ ما .
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهمْ .. يقولون : لا تهلك أسىً وَتَجمَّلِ
ولدينا في تَيْنك الأبيات صورتان شعريتان بارزتان :
الصورة الأولى : التشخيص في قوله : لِما نسجتها من جنوبٍ وشمألِ . إعطاء الرياح صفة من صفات الإنسان وهي هنا صورة الخياط الذي يخيط النسيج . فتلك الرمال الناعمة بين تلك الجبال وما تحمله من عبق الذكرى لاتزال آثار ساكنيها قائمة ، لأن رياح الشمال تأخذها فتدفعها للاندثار ، فتأتي على إثرها رياح الجنوب تأخذها فتعيدها إلى مكانها . تماما كما تفعل آلة الإبرة أو آلة الغزل في النسيج تذهب وتعود في انتظام .
الصورة الثانية : التشبيه في قوله : ترى بعَر الأرآمِ في عرصاتها.. وقيعانها كأنهُ حَبُّ فلفلِ
فالأرآم الغزلان تنفر من الإنسان لكنها لما خلت الديار اطمأنت فأخذت تزور تلك الأطلال وهاهي آثارها قائمة . وتشبيه البعر بالفلفل الأسود يبين لنا كم هي آلة التصوير لدى امرئ القيس خاصة ودقيقة ! سواء من حيث الحجم واللون بين البعرة والفلفل الأسود فهما مستديران صغيران أسودان ، لكن اختيار الفلفل الأسود أيضاً له دلالات متعددة. لماذا وقع الاختيار على الفلفل الأسود بالذات ؟ فهو نبات غير مألوف ولم تكن الحجاز ولا نجْد بأرض زراعية تنبت الفلفل الأسود ! وربما لا يملك ثمن استيراده من اليمن أو الهند مثلا إلا الملوك! كأن امرأ القيس أورده في معلقته إذن تحفيزا وتذكيرا لقومه الذين كانوا ينعمون برغد العيش في ظل ملكهم .
ودلالة أخرى تفيد في الإشارة إلى ذكر الفلفل الأسود ، وهي الحرقة ! فقتل الأب وضياع الملك يُخلِّف ألما وحرقة تماما كالحرقة في الفم أو في المعدة التي تسببها حرارة الفلفل الأسود .
إذا فهمنا هذه النقطة عرفنا كيف تتكون الصورة وكيف تملك كل هذا التأثير .
العالم الذي تنطوي عليه ذات الشاعر هو صورة طبق الأصل عن العالم المادي . فأنت لو أغمضت عينيك لقامت في نفسك صور الطبيعة بألوانها وأشكالها المختلفة كما هي على أرض الواقع .
هذا جانب .
الجانب الآخر ذاكرة الشاعر وهي هنا الذاكرة اللغوية فالشاعر يمتمع بذكاء لغوي خاص . تدفعه الغريزة إلى الاهتمام بالمجاز والتعبير عن الأحاسيس والأفكار بأسلوب وطريقة فنية وبالتالي فهو يستقي مواد ذلك من السياحة في دواوين الشعر ، فالصورة قوامها المفردات والتراكيب وفقه اللغة وإشاراتها وإيحاءاتها . لكن ! يختلف الشعراء في التعامل مع هذا الذكاء اللغوي وفي بعد النظر وفي درجة الإحساس وفي اختيار المدرسة الأدبية التي تتوافق مع ميول الشاعر كلاسيكية رومانتيكية واقعية سريالية إلخ . وهذا يدفعنا إلى أخذ لمحة خاطفة عن الخيال .
الخيال الأدبي هو محور نجاح الصورة وافتنانها وإشراقها . القدرة على التنسيق والانسجام والموائمة تلك الثلاث الأخيرة هي حياة الصورة الشعرية الناجحة . الانسجام بين عناصر الصورة من أفكار ومشاعر وطبيعة وألفاظ .
ينقسم هذا الخيال الأدبي إلى قسمين :
خيال استدعائي وخيال ابتكاري .
الخيال الاستدعائي هو الذي تكون فيه المعاني الجزئية قريبة من الذاكرة لا تستحق عناء البحث غير عناء النظم والتنسيق بين عناصر الصورة . وكثير من هذه المعاني المختلطة القريبة مألوف ومطروق كتشبيه الوجه بالقمر والخد بالورد وما إلى ذلك . كأن يكون الشاعر قد حفظ قصيدة عن الغربة لشاعر ما ، فإذا مر به الموقف ذاته ، فتحت الذاكرة للخيال أحاسيس ومواضيع تلك القصيدة السابقة ، فسار على منوالها .
ليس بالضرورة أن يكون نقلا حرفياً ولكنها أفكار مكررة . كأن الشاعر ذاته يعيد نفسه ! وهذا كثيرا ما نراه في شعراء الجيل الواحد يقرأ بعضهم لبعض فيتأثر الروح الأدبي العام .
كأن لدينا مصنع يخرج لنا ثياباً من نوع واحد غير مسحة اختلاف طفيفة بالألوان والأصباغ .
أما الخيال الابتكاري فهو يمتاز بالقدرة على الالتقاط السريع والتفاعل مع اللحظة الشعرية واستحضار الأفكار والصور الشعرية المخزونة سابقا ثم نقض ذلك جميعاً والخروج بصور وأفكار وأساليب جديدة أو مميزة .
الشاعر الفضول
هو عبدالله عبدالوهاب نعمان . من أسرة وطنية مناضلة كبيرة كان لها دور بارز في التعليم والثورة على الكهنوت الإمامي ورسم معالم اليمن الجمهوري الحديث .
هو من مواليد 1917 في قضاء الحجرية بتعز تلقى تعليمه في قرية ذبحان على يد ابن عمه الأستاذ أحمد محمد نعمان ودرس أيضا في زبيد على يد أشهر علماء زبيد عبدالله المعزبي كان في الأربعينيات ضمن الشباب المستنير الذين تجمعوا في تعز برز اسمه كصحفي وهو في العشرينات . عام 48 أسس في عدن صحيفة أسماها بالفضول . كان رحمه الله يتمتع بحس فكاهي ساخر . كتب مقالة مرة خفقت لها قلوب القراء ، وارتجت لها الدنيا بعنوان : انقلاب عسكري شمال اليمن جعلت القراء يتهافتون على شراء الصحيفة ليكتشفوا في الأخير أنهم وقعوا ضحية مقلب فضولي لا ينسى أبدا . حيث سقط عسكري من فوق حماره في مدينة تعز وظن الناس أن هناك انقلاب على الإمامة في صنعاء .
وبالمناسبة وقد افتتحنا الحديث بالحديث عن امرئ القيس فإن للفضول قصيدة نشرها في الخمسينيات بعنوان امرؤ القيد .
شعب بحمدالله يمشي للورا
لحف التراب وبالحصير تأزرا
شاطئ أغنية طاب البلس
محلا بنات الجبل / حينما يطوفين المدينهْ / بالثياب الدَّمسْ
خدود مثل الورد / ضوء الفجر أرواها / وأعطاها المشاقر حرسْ
محوّطات الوجوه البيض / بالكاذي المسقّى في برود الغلسْ
يتعجب الشاعر الفضول هنا من بنات جبل صبر . يقول : ما أشد عجبي وعليك أن تعجب أيها المستمع أيضا من جلال وأناقة بنات الجبل .
وإضافة كلمة الجبل تخفي وراءها دلالة بديعة . فجبل صبر عال ومنيع تبدو الجبال من حوله صغيرة مطأطأة رؤوسها شاخصة ببصرها إليه كأنه خطيب قام على منبر فاستشرفته العيون.
وكونهن بنات الجبل فهن منيعات عزيزات لاتطالهن الأيدي ولاتطمع النساء الأخريات أن يبلغن جمالهن . فقد اختصهن الجمال بالعلو والفرادة . ولا يبرح الشاعر أن يسوق لنا الدلائل حتى لايكون حديثه انطباعيا ضرباً من الوهم .
فأولاً : يطوفين المدينة . واستخدم كلمة الطواف للاهتمام والعناية الشديدة . بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً فالبردوني هنا يستخدم كلمة الطواف للمناسبة كـأن البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام قافلة من الحجيج تطوف خاشعة يقطر من نواصيها ماء الوضوء والنقاء. والذي يطوف حول الكعبة يلزمه لبس الإحرام والطهارة والتوبة والتجرد من أوهاق الأرض وملذاتها طلبا للنور والهدى . وبنات الجبل يطفن حول المدينة يرتدين ثياب الجمال والطهر يؤدين مناسك الحب والنعيم . والثياب الدّمس المعتقة بالنشوة لأن الدمس في اللغة نوع من الغطاء الذي يوضع على زق الخمر .
فهن عفيفات نقيات يبعثن النشوة فيمن حولهن عزيزات منيعات .
ثم تأخذ الشاعر فتنة هذا المنظر فيشرع في وصفهن : خدود مثل الورد من حيث النعومة والحمرة والعطر . تشبيه قريب وهذا ما عنينا به سابقا عند حديثنا عن الخيال الاستدعائي ، لكن ! وهنا يبرز لنا بوضوح معنى الخيال الابتكاري : ضوء الفجر أرواها وأعطاها المشاقر حرسْ . فهي ليست ورودا طبيعية تسقى بماء عادي ، وإنما تسقى بضوء الفجر والفجر أول دفقة من النور شفاف روحاني يبعث على البهجة والحيوية . ولأنهن من بنات الجبل فهن قريبات من الغيم والألق، لذا اختصهن الفجر بعناية فغمرهن بالفتنة والسحر : وأعطاها المشاقر حرسْ
ولكم أن تتخيلوا وقد انفسح المدى : جمال يحرس جمال ! كأنهن بدور من حولهن الثريا وهالات العظمة .
محوّطات الوجوه البيض / بالكاذي المسقّى في برود الغلسْ
أبشارهن بيضاء كبياض الثلج وجوههن محوطات بنوع من الورد وهو الكاذي النافذ العطر المكتنز بالحياة . فهن عطرات زكيات باردات على القلوب .
شاطئ المحبة
وطني حيثُ زهرُ الهوى ومناخي .. حيثُ ينمو ومنه ألبس خصبي
وهديلُ الحمام والضوءُ والأنداءُ.. والزهرُ والفراشاتُ صحبي
وإذا الحب كان ذنباً فما .. أطهرني مذنبا وأطهر ذنبي
الشاعر الفضول مسكون بالحب ، مفتون بالجمال الخلاق . رهيف الحس تكاد أذنه الموسيقية أن تلقط صوت النغمة في أعماق الحمائم ، وقلق الماء في بطون الغمائم . عاشق للحسن حتى الثمالة كأنه رسول الفن في الحياة بعث لينظم فرائد الجمال الشاردة في الكون في كلمات أنيقات كأنهن لوحة فنية تنبض بالحرية والحركة . وحيث يكون للهوى رياض وبساتين بعيدا عن أجواء الكراهية والبغضاء وبعيدا عن أصداء القتل والاغتيال فهناك بعيدا يكون موطن روحي وقلبي . وهديلُ الحمام والضوءُ والأنداءُ .. والزهرُ والفراشاتُ صحبي
وفي قوله هذا كأنه يتناص مع الشنفرى الشاعر العربي الصعلوك الذي تشربت روحه رفض العادات الاجتماعية الظالمة السائدة ، والتي تخول للغني أن يستعبد الفقير ، فآثر العيش في البراري مؤثراً صحبة الذئاب والسباع يقول لقومه :
ولي دونكم أهلون سيد عملَّسٌ .. وأرقطُ زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ . فهؤلاء لا يغشون ولا يمارون في الصداقة ولا ينافقون . لكن الشنفرى على شجاعته كان طالب ثأر أما شاعرنا الفضول فهو على النقيض تماماً إنه صنو الطبيعة الخلابة ورسول محبة :
كل صدقي في الهوى وإذا قلتُ .. بغير الهوى فذلك كذبي . إنه يعد المحبة تطهيرا للنفوس وصقلا للقلوب وقربانا إلى الله وطاعة وحب . أِشبه بحب الصوفي وانهماكه بالذكر والرياضة الروحية حب عذري نابع من عاطفة جياشة نبيلة . إنه مخلص للحبيب متفان في المودة يسترخص في سبيله كل غال ونفيس حتى ولو كان ذلك جرماً يؤاخذ المحب عليه .
وإذا الحبُّ كان ذنباً فما .. أطهرني مذنبا وأطهر ذنبي . وكأنه هنا يتناص مع عباس بن الأحنف في قوله : أستغفر الله إلا من مودتكم .. فإنها حسناتي يوم ألقاهُ .