للشاعر اليمني الكبير د. عبدالغني المقرمي

عناصر التشكيل والإبداع في قصيدة : (تمتمةُ حائطٍ يتداعى)

عناصر التشكيل والإبداع في قصيدة : (تمتمةُ حائطٍ يتداعى)
1798 زيارة

طارق السكري

عناصر التشكيل والإبداع في قصيدة : (تمتمةُ حائطٍ يتداعى) للشاعر اليمني الكبير د. عبدالغني المقرمي

طارق السكري 

 الدكتور عبد الغني المقرمي
الدكتور عبد الغني المقرمي

 

تمهيد

” القراءة تجعل المكتوب بدايات لاتنتهي ” لذة النص . رولان باررت. 

إن عوالم الشعر عوالم شاسعة .. بديعة . لها كائناتها الغرائبية وقوانينها المختلفة الخاصة . إنها تشبه جنة الإشراقيين التي بين السماء والأرض ” جنة الأفكار ” التي يتنزل منها الإلهام بروائع البيان . وما يدهشنا في عوالم الجمال والفن أيضاً هو قدرة النص الأدبي على إثارة خيالاتنا وانشطار ذواتنا واستلابنا من ملابسات واقعنا المادي المعاش ، والسفر بنا عبر ذواكر الأزمنة والأمكنة ، وصهر الأحداث والرؤى في أيقونة واحدة ، وتوجيه سلوكياتنا نحو الفاعلية واتخاذ موقف ثقافيٍّ ما من الحياة.

 وليس لنا أن نغرب بعيداً . ففي ديوانه الموسوم بـ المظلَّلُ بالحمامْ . للدكتور الشاعر / عبدالغني المقرمي . هذا الديوان الصادر عام 2019 . يطل علينا الشاعر من خلاله بمواضيع شيّقة ونفس شعري جديد وطاقة إبداعية خلاقة وثقافة معاصرة عالية . يستحوذ ” المظلل بالحمام ” على ملكات القارئ منذ اللحظة الأولى . تلك اللحظة التي تنبثق فيها الرؤية على هذا العنوان الطربيّ الآسر ” المظلل بالحمام ” هذا العنوان الذي يُشكل دوائر واسعة في بحيرة الدهشةِ تدور وتتسع إلى أبعد مدى . فهو يتناص مع ما ورد في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، يوم قفل رسولنا الكريم من الشام بتجارة خديجة رضي الله عنها، وكانت تظلله الغمامة في مسيره وتقيه من حر الشمس . بيد أن العنوان هنا يكسر الألفة وحالة التوقع ويتجاوز اللغة العادية مما يقف بالقارئ ساعة يتأمل ! إن منظر الحمام لجميل في حد ذاته . كيف لو كان هذا الحمام غماما ؟ ثم يهمس القارئ في نفسه : كيف يمكن للحمام أن يظلل الشاعر؟ 

إن الحمام في الشعر العربي معادل موضوعي للحنين الذي كثيراً ما يستثير خيال الشعراء ويستفزهم . فالحمام في وداعته يشبه وداعة الحبيبة . هديله ترياق من ألم اللوعة ، وقبس من صبابة . والشاعر في غربته .. بعيد عن أهله ، ومرابع صباه . تأكله الحسرة وتتّقدُ به الذكرى . فلا زاد يهنّيه ، ولا أنيس يسلّيه ، ولا نوم يزور عينيه . تستحيل الغربة في روح الشاعر إلى صحراء حامية ، فما الذي يقيه من حجيم الشوق ؟ إنه الحنين الذي هو معادل موضوعي للحمام أيضاً . الحنين الذي يُولّد الغناء الشعري والشجن الآسر والحلم الطاغي بالعودة إلى الأرض . ولكم أن تتخيلوا ! كيف يمكن للحنين أن يكون خلاصا من الحنين ؟! ألا يتناص هذا المفهوم مع قول الشاعر العربي القديم الشهير : كالمستجير من الرّمضاءِ بالنارِ ؟ إن مضمون العنوان ” المظلل بالحمام ” يدخل في لعبة التورية البلاغية مع ظاهره تماما ً . إنه عنوان مترع بالمرارة . والعنوان في بُعديه المضمر والمعلن يشكل فارقاً في الجمالية .

 

 

عند مدخل “المظلل بالحمام” تقابلنا قَمَريَّةٌ فاتنة على غرار القَمَرِيّات الهندسية التي تتزين بها شبابيك صنعاء القديمة ، محاطة بأشجارٍ وظلال من الكلمات والموسيقى الباكية العميقة . غير أن القمرية التي نعنيها هنا قصيدةٌ بعنوان : ” تمتماتُ حائطٍ يتداعى ” قصيدة الديوان الأولى . قصيدة تطوف حولها هالاتٌ من الغموض الموحي . مكتنزة بالدلالة ، متعددة القراءة ، عظيمة الاتصال بالعالم . عناصر صورها الشعرية متناسقة تمشي جنبا إلى جنب . فلا الفكرة تطغى على العاطفة ، ولا العاطفة ترتجل الخيال ، ولا الخيال يشطح باللغة ، ولا اللغة تنفصل عن الواقع ، ولا الواقع يعلن القطيعة مع الماضي ، ولا الماضي بعيد عن المستقبل . بل كل جزء في القصيدة يشكل جوهرا فنيا لا يمكن الاستغناء عنه .

إن ” تمتماتُ حائطٍ يتداعي ” تفاجئنا بقوة العلاقات المتشابكة مع نصوص أخرى . إنها تتناص مع القرآن الكريم ومع السيرة النبوية ومع أبي تمام والمتنبي ومع الشاعر الفرنسي بودلير ومع الزبيري والبردوني ومع الأغنية الشعبية ومع الرواية أيضاً . 

التناص مع القرآن : يقول الله تعالى حكاية عن جدار اليتيمين في سورة الكهف : ( حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه “الآية سورة الكهف . وللشاعر قصيدة بعنوان : ( تمتمات حائط يتداعى ) .

التناص مع السيرة النبوية : كما أشرنا سابقا في عودته صلى الله عليه وسلم من الشام وكانت ترافقه غمامة تظلله وتقيه وهج الشمس . وعنوان الديوان : ( المظلل بالحمام ).

التناص مع أبي تمام : 

فأبو تمام يفخر بقصيدته المادحة ويجعلها منها حلىً ذهبية نفيسة :

لا زلتَ من شكريَ في حُلَّةٍ

لابسها ذو سَلَبٍ فاخرِ 

يقول من تقرعُ أسماعهُ :

كم ترك الأول للآخرِ 

وشاعرنا المقرمي يقول : 

وكلما قلتُ للأيامِ معجزةً 

هزَّت بوجهي عصا حمَّالةَ الحطبِ

التناص مع المتنبي في زهادة الأديب وحالة الفقر الملازمة للأديب :

يقول المتنبي :

فَسِرتُ نَحوَكَ لا أَلوي عَلى أَحَدٍ

أَحُثُّ راحِلَتَيَّ الفَقرَ وَالأَدَبا

ويقول شاعرنا : 

وكيف يطمع في صفو الحياة فتىً

مثلي..وقد أدركته حرفةُ الأدب؟

 

ومع المتنبي أيضا في بيت آخر.. يقول المتنبي فيه : ( أنا الغريق فما خوفي من البللِ ) . ويقول شاعرنا في آخر القصيدة : ( .. فما خوفي إذا اسودّت الآفاقُ بالكذب ؟ ) 

التناص مع الشاعر الفرنسي بودلير :

يقول بودلير في أزهار الشر : ( أنا قبر عافه القمر ) . ويقول شاعرنا : ( مقبرةً تلتفُّ حولي).

التناص مع الزبيري : 

يقول الزبيري رحمه الله :

ما لليمانيين في لحظاتهم

بؤسٌ ، وفي كلماتهم آلامُ ؟

ويقول شاعرنا : 

(أنَّى التفتُّ رأيتُ البؤسَ مختبئاً

في كل شيء).

التناص مع البردوني :

يقول البردوني رحمه الله من قصيدة “عيّنة جديدة من الحزن” : (الأشجار تحسو ظلها ) . ويقول شاعرنا : ( جدارٍ يُواري ظلّهُ ) . 

التناص مع الأغنية اليمنية الشعبية : 

في أغنية للفنان / عبدالباسط عبسي يقول من كلمات الشاعر الفضول :

وكل نجمهْ فارقت سماها

إلا حبيبي ما طِفي ولا غاب

ويقول شاعرنا : 

كلُّ النُّجومِ بآفاق المنى أفلتْ

ووحدهُ الحزنُ لم يأفل ولم يغبِ

 

التناص مع رواية الأشياء تتداعى : 

ففي رواية الكاتب النيجيري ” تشينو أتشيبي ” تقوم الفكرة على انهيار منظومة القيم الأخلاقية والعادات واللغة على يد المستعمر البريطاني . وعند شاعرنا المقرمي قصيدة بعنوان : تمتمات حائط يتداعى . توصلت القراءة إلى أن دلالة ” الحائط ” في القصيدة دلالة ديناميكية منصهرة في الفعل الثقافي . كما سيتبين بوضوح أكثر . تتلخص في تداعيات آمال المثقف على يد سلطة الواقع القمعية . وقد وردت في القصيدة إشارة إلى تلك السلطة القمعية : ( عصا حمَّالةَ الحطبِ ) . كما يتناص مع أمّ جميل التي كانت تفرش طريق محمد عليه الصلاة والسلام بالشوك والحصى . وقد نعت القرآن الكريم أم الجميل بحمّالة الحطب : ( وامرأته حمَّالةَ الحطب . في جيدها حبل من مسد ) .

التناص مع اليمن :

اليمن بوابة التاريخ .. مهوى فؤاد الشاعر .. مسكونة في لا وعيه . واليمن مسكونة بشاعرنا أيضا ولذلك يتقاطع معها وتتقاطع معه فنراها تطل برأسها من خلال لاوعي الشاعر في انسيابية خلاقة لا تكاد تحس أو تدرك عند القراءة الأولية فتقول في تمازج وتداخل : 

كم أشرقوا بشموسي!! وارتدوا حُللي!!

وأمطروا يُطفئون الجدب من سُحُبي

 

هذي بيادرهم ملأى بما زرعت

كلتا يديّ أنا المنسيُّ في سغبي

 

ويُنكروني .. وإن اللهَ يشهد لي

سبحانه.. وصلاةُ الحِبرِ في الكتب

وهذا البيت الأخير هو الذي دفعنا على القول بأن المتكلم هنا هي اليمن . فمن هو الذي يشهد الله له ؟ من هو المذكور في الكتب ؟ لاشك أنها اليمن الذي ورد ذكرها في الكثير من آيات القرآن الكريم ، كما تفردت سورة كاملة بسورة سبأ . وسبأ مملكة من ممالك اليمن القديمة . كما لعبت اليمن على يد الأنصار رضوان الله عليهم وقادات الجيوش على مر التاريخ دورا بالغ الأهمية لا يجحد ذلك ذو بصر وبصيرة .

إذن نحن أمام نص شعري / ثقافي مختلف .. غير عادي .. مفعم بالعلاقات الخارجية . خارج التشكيل اللغوي والبلاغي . إنه نص كوني تتماهى في ثناياه الذوات والمثل العليا . يقول الدكتور محمد مسعد في كتابه : (سحر شعرية النص) :”إن أي نص قولي لا يتناص مع المعنى الوجودي العام ولا يمثل قلقا وجوديا ولا يكون قابلا للقراءات المتعددة ولا يمتلك القدرة على الدخول في علاقات جديدة مع نصوص أخرى هو نص شعري مسطّح لا قيمة له ” صـ15 وكأن الدكتور يشير إلى ماذهب إليه الناقد الفرنسي رونلان بارث صاحب كتاب” لذة النص” في حديثه عن الصورة الفنية التضمينية ذات الرسالة الثقافية التي يُحدِث فيها التداخلُ بين الدلائل تناغما دلالياً .

إنها الروح الشاعرة الطليقة في الكون إذن . تلك التي تؤنسن المعاني والأفكار . فيصبح الوطن صديقاً والمعارف والآداب والفنون أصدقاء ، وتصبح الفضيلة صديقة . تأخذ في طريقها إلى الفردوس ” الموطن الأصلي ” ما يخدم فكرتها وتتجاهل كل ما يشذ عنها ولا ينتمي إليها . لقد أصبح لدينا بها مجتمعاً مؤنسناً نستطيع أن نغزو به عالم القبح . لكنها وهي تتناص مع النصوص الأخرى لا تقع أبدا تحت تأثيرها ولا تتموضع فيها ، بل هي من يملك الزمام ويتسيد الموقف . 

وهنا يكمن سرّ اختيار الشاعر لهذه القصيدة لأن تكون مفتتحا للديوان . مما ينمّ عن حسن اختيار الشاعر ومدى وعيه بما هو مقدمٌ عليه . 

القصيدة :

 

عَلى جدارٍ يُواري ظلَّه خرِبِ

أسندتُ رأسي .. وفي قلبي جراحُ نبي

 

يجتاحني وجعُ الخُذلانِ مقبرةً

تلتفُّ حولي .. فلا أقوى على هرب

 

أسندتُ رأسي.. وكان الصمتُ يقرؤني

حلماً تبخّر بين العجز والتعب

 

كان الطريقُ طويلا والمدى قلِقاً

والريحُ تهذي وخيلُ اليأس في طلبي

 

وسرتُ كالماء .. زادي شِلْوُ أغنيةٍ

في واسعٍ من رمال التيه ملتهب

 

في كل مُنعطفٍ منه تُباغتني

دموعُ أمي تناديني .. وقبرُ أبي

 

حتى أتيتُ هنا لحناً بلا وترٍ

يلهو به الحزنُ في دوَّامةِ الصَّخب

 

أشقى وأحطبُ أيامي لمن مردوا

على استراق ضياء النار من لهبي

 

كم أشرقوا بشموسي!! وارتدوا حُللي!!

وأمطروا يُطفئون الجدب من سُحُبي

 

هذي بيادرهم ملأى بما زرعت

كلتا يديّ أنا المنسيُّ في سغبي

 

ويُنكروني .. وإن اللهَ يشهد لي

سبحانه.. وصلاةُ الحِبرِ في الكتب

 

 

 

كلُّ النُّجومِ بآفاق المنى أفلتْ

ووحدهُ الحزنُ لم يأفل ولم يغب

 

والعمرُ يهرعُ : صبحٌ غيرُ منتظرٍ

يَكِرُّ إثر مساءٍ غيرِ مرتقب

 

ياويحه حلماً ..جفت جداوله

لم يبق فيهنَّ للظمآنِ مِن أرب

 

فكيف أغزل من هذا الرَّماد غدي؟

وكيف أوقد في عصفِ الرَّدى شُهُبي؟

 

وكيف أنشد أبناء السماء وما

في الأرض غير تماثيلٍ من الخشب؟

 

أنَّى التفتُّ رأيتُ البؤسَ مختبئاً

في كل شيء .. وحظي في الحياة غبي

 

وكيف يطمع في صفو الحياة فتىً

مثلي..وقد أدركته حرفةُ الأدب؟

 

 

حَتَّامَ أسخو على الدنيا وتمنعني

وأسمع الدهرَ آياتي .. ويسخر بي؟ 

 

وكلما قلتُ للأيامِ معجزةً 

هزَّت بوجهي عصا حمَّالةَ الحطبِ 

 

لكنني وأنا المنفيُّ من حلمي

إلى محيطٍ من الأوجاعِ مضطربِ

 

ما زلتُ رغمَ اتِّساعِ الجرح أغنيةً

خضراءَ تُزهر بالأشهى كحلم صبي

 

أطوي السماواتِ في قلبي .. وملءُ دمي

مشاتلُ التين والزيتون والعنبِ

 

وأعشق الحرف مِعراجاً .. أُنزِهُّهُ

عن أن يُنكّس مذبوحاً على النّصبِ

 

أضاءني الصِّدقُ مِن كلِّ الجهاتِ فما

خوفي إذا اسودّت الآفاقُ بالكذب ؟

 

يتبع 

شاركها:  

اشترك في نشرتنا ليصلك كل جديد

نعتني ببياناتك ونحترم خصوصيتك. للمزيد اقرأ  سياسة الخصوصية .