مع احتفال السعودية بيومها الوطني الخامس والتسعين، تتجه الأنظار إلى التحولات الثقافية التي تشهدها المملكة، إذ تحوّلت الثقافة من نشاط هامشي وموروث ساكن إلى ركيزة أساسية في رؤية شاملة تعيد صياغة الهوية الوطنية، وتربط الماضي بالحاضر، وتفتح آفاقًا واسعة للمستقبل.
يحلّ اليوم الوطني السعودي الخامس والتسعون في لحظة تاريخية فارقة، تلتقي فيها الرموز الثقافية بمشاريع التغيير الكبرى، وتتداخل الذاكرة الوطنية مع رؤية تسعى لإعادة صياغة الحاضر وبناء المستقبل. في هذه المرحلة، اليوم الوطني مناسبة للاحتفاء بذكرى التوحيد السياسي الذي تحقق عام 1932، ونافذة أوسع لرؤية التحولات التي تشهدها المملكة، وساحة لعرض قدرتها على جعل الثقافة عنصرًا فاعلًا في مشروعها التنموي والاجتماعي، وجسرًا يربط الماضي بتطلعات الأجيال القادمة.
في السنوات الأخيرة، شهدت السعودية تحولًا جذريًا في مقاربتها للثقافة. لم يعد هذا المجال نشاطًا ثانويًا يقتصر على الاحتفالات والفعاليات الرمزية، بل أصبح قطاعًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الاقتصاد والتعليم. هذا التحول انعكس في تأسيس هيئات ومتاحف ومواسم ثقافية، وفي مشاريع كبرى مثل الدرعية والعلا، حيث يُعاد توظيف التراث المادي واللامادي ضمن مسارات تنموية تهدف إلى بناء اقتصاد إبداعي، وتعزيز حضور المملكة إقليميًا وعالميًا.
شعار اليوم الوطني لهذا العام، “عزّنا بطبعنا“، يحمل دلالات تتجاوز الجانب الاحتفالي، فهو يربط الاعتزاز بالقيم المحلية بمفهوم التحديث والانفتاح. في بعده الرمزي، يعكس الشعار إدراكًا بأن التغيير الحقيقي لا يكتمل إلا إذا استند إلى الجذور، وأن الثقافة قادرة على أن تمنح مشاريع التنمية عمقًا يتجاوز المظاهر الخارجية، لتصبح الهوية الوطنية جزءًا من الحاضر المتجدد، لا مجرد استدعاء للماضي.
السعودية بلد واسع، متعدد البيئات الاجتماعية والثقافية. من هنا، تبرز الثقافة باعتبارها الرابط الأعمق الذي يوحّد المجتمع رغم اختلاف مكوناته. فمن الفنون الشعبية إلى الأزياء التقليدية، ومن الشعر النبطي إلى العمارة التاريخية، تتشكل شبكة من الرموز التي تمنح الأفراد شعورًا بالانتماء المشترك. وقد أعادت رؤية 2030 تفعيل هذه الرموز، ليس بوصفها تراثًا معزولًا، بل كعناصر حية تُدمج في الفنون الحديثة، وتقدَّم عبر منصات رقمية ومبادرات وطنية تجعلها مفهومة للأجيال الجديدة، ومؤثرة في الداخل وفي صورة المملكة عالميًا.
غير أن مسار التحديث السريع يفرض تحديات معقدة، خصوصًا في ما يتعلق بالانفتاح الثقافي. فالسعودية اليوم حاضرة في المعارض والمهرجانات الدولية، وتشجع الصناعات الإبداعية، وتدعم الفنون الحديثة، وفي الوقت نفسه تحرص على إبقاء الموروث حاضرًا في هذه المسارات. هذا التوازن بين الانفتاح والخصوصية يمثل أحد ملامح المشهد الثقافي الراهن، حيث تتجاور أشكال التعبير التقليدية مع التجارب الجديدة، في صورة تعكس سعي المملكة إلى أن تكون دولة حديثة تحمل إرثها المحلي الغني إلى العالم، دون أن تفقد هويتها.
هذا التنوع يتجلى بوضوح في الأقاليم الثقافية المختلفة داخل المملكة. ففي الحجاز، تحضر مكة والمدينة كرمزين روحيين، وتعكس جدة تاريخها التجاري وانفتاحها على الثقافات، بينما تقف العلا كصفحة حية من تاريخ الحضارات القديمة، ومختبر يربط البحث العلمي بالسياحة الثقافية.
في نجد، التي تشكل قلب المملكة السياسي، تبرز الرياض مركزًا للوحدة وصناعة القرار، ويستحضر الشعر النبطي والعرضة السعودية والعمارة الطينية ذاكرة المنطقة، في تفاعل حي مع حاضرها.
أما الشرق، فتلتقي واحات الأحساء بذاكرة البحر، حيث يمتزج تاريخ الزراعة بصيد اللؤلؤ والتجارة البحرية.
في حين يحتفظ الجنوب بطابعه الجبلي المميز، حيث زراعة البن وإنتاج العسل والفنون الشعبية التي تحمل تاريخ المنطقة وقيمها المتوارثة. هذا التنوع، حين يُستثمر ضمن إطار وطني جامع، يتحول إلى مصدر قوة، إذ يجمع الخصوصيات المحلية في سردية واحدة تعكس صورة المملكة بكل غناها وتعددها.
وقد استثمرت رؤية 2030 هذا الغنى الثقافي لتحويله من موروث ساكن إلى صناعة منتجة، وجزء من جودة الحياة والتنمية الاقتصادية. ومن أبرز ملامح هذا التحول إنشاء وزارة الثقافة لإحدى عشرة هيئة متخصصة تغطي مجالات الفنون والموسيقى والمسرح والعمارة والنشر والمتاحف، بحيث تتولى وضع السياسات، وإدارة التمويل، وتطوير المهارات. هذا الإطار التنظيمي عزز من احترافية العمل الثقافي، وفتح الباب أمام نمو هذا القطاع في مختلف مناطق المملكة.
تجلّت نتائج هذه السياسات في مشاريع كبرى امتدت إلى معظم الأقاليم. في العلا، يُعاد تأهيل الأحياء التراثية ضمن منظومة تجمع بين المعرفة والبحث العلمي وحماية البيئة والنقل المستدام، ليصبح المشروع نموذجًا عالميًا لإدارة المواقع الأثرية. وفي الدرعية، تُستحضر صفحات التاريخ بأساليب حديثة تربط الماضي بالحاضر.
أما جدة التاريخية، فشهدت أعمال ترميم واسعة أعادت الحياة لأسواقها ومبانيها، مع إدخال وظائف معاصرة تجعل التراث جزءًا من النشاط اليومي للمدينة. مشروع “رياض آرت” بدوره حوّل الفضاء العام إلى معرض مفتوح للفنون، فيما تقدم حديقة الملك سلمان نموذجًا لدمج الثقافة بالخدمات المدنية عبر المتاحف والمسارح والمراكز التعليمية.
تهدف هذه المشاريع إلى بناء اقتصاد متنوع، حيث تصبح السياحة الثقافية رافدًا مهمًا للناتج المحلي، وتسهم الصناعات الإبداعية مثل السينما والنشر والتصميم في خلق فرص عمل وجذب استثمارات محلية وأجنبية.
هنا يبرز دور صندوق التنمية الثقافية الذي يعمل على تمويل المشاريع وضمان استدامتها، فيما تقدّم تقارير “حالة الثقافة” بيانات دقيقة لقياس الأثر وتطوير السياسات على أسس واضحة، وهو ما يعكس تحولًا نوعيًا في إدارة القطاع الثقافي.
الصناعات الثقافية تقوم على سلسلة متكاملة تبدأ من التدريب وبناء المهارات، مرورًا بالإنتاج والتوزيع، وصولًا إلى الجمهور المحلي والعالمي. وقد برزت خلال السنوات الأخيرة فعاليات تعكس هذا المسار، مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي أصبح منصة إقليمية لصناعة الأفلام، وبينالي الدرعية للفنون الذي يربط الفنانين السعوديين بالمشهد العالمي، ومواسم السعودية التي تجمع بين الفنون والترفيه والرياضة، وتنعش المدن وتستقطب السياح، بما يضع المملكة في موقع متقدم على خريطة الصناعات الثقافية العالمية.
كما تتجاوز الثقافة بعدها الداخلي لتصبح أداة للتواصل الإقليمي والدولي. فعلى مستوى المنطقة، تمثل مشاريع مثل العلا والدرعية منصات للتعاون مع دول الخليج واليمن والعراق والشام في مجالات السياحة والبحث والتعليم، فيما تنتقل الفنون الشعبية والحرف التقليدية عبر المهرجانات والمعارض لتعزيز الوعي بالمشترك الثقافي وفتح آفاق للتكامل الاقتصادي.
وعلى الصعيد العربي، يظهر حضور المملكة في معارض الكتب ودعم النشر والترجمة واستضافة الفعاليات التي تجمع المبدعين والمؤسسات الثقافية. وفي العالم الإسلامي، تبرز مبادرات لترميم المساجد التاريخية، إلى جانب تأسيس المتحف الإسلامي العالمي في الرياض، بما يرسخ دور المملكة في حفظ التراث الإسلامي وتقديمه للعالم.
أما دوليًا، فقد أصبحت العلاقات الثقافية ركنًا أساسيًا في الدبلوماسية السعودية، من خلال شراكات مع اليونسكو واتفاقيات مع المتاحف الكبرى، والمشاركة في مهرجانات دولية مثل كان وبرلين، حيث تُعرض الأفلام السعودية وتشارك الفنون البصرية في المعارض العالمية، ما يعكس صورة متجددة للمملكة.
اليوم الوطني الخامس والتسعون يمثل محطة للتأمل في مسار دولة تعيد تعريف نفسها في عالم سريع التحولات. وإذا كان التوحيد السياسي الذي تحقق عام 1932 قد رسم حدود الدولة الحديثة، فإن المرحلة الراهنة تشهد مسارًا جديدًا يمكن وصفه بالتوحيد الثقافي، حيث يُعاد تنظيم التنوع الداخلي في سردية وطنية موحدة. هذه السردية لا تلغي الفوارق، بل تجعلها جزءًا من القوة الناعمة التي تعزز تماسك المجتمع، وتمنحه القدرة على التفاعل مع المتغيرات من موقع راسخ.
في هذا الإطار، تبدو الثقافة اليوم أكثر من مجرد نشاط ترفيهي أو تراثي، فهي تتحول إلى سياسة دولة، وأداة استراتيجية لبناء المستقبل، وجزء من الاقتصاد الوطني وحضور المملكة في العالم.
ومع استمرار مشاريع رؤية 2030، يبرز دور الثقافة في ربط الذاكرة بالمستقبل، وتحويل الرموز والقيم إلى قوة فاعلة، بما يفتح أمام المملكة آفاقًا جديدة لصياغة الحاضر، وتوسيع مساحات الإبداع، وبناء مكانة عالمية تستند إلى هويتها العميقة وتطلعاتها المتجددة.
وفي هذا اليوم الوطني الخامس والتسعين، تتجه الأنظار إلى ما حققته المملكة في مسيرتها الثقافية، من مشاريع وبرامج أعادت الاعتبار للتراث وفتحت آفاقًا للإبداع والابتكار. هذه الإنجازات ليست فقط شواهد على مرحلة من البناء، بل هي أيضًا وعد بمستقبل يواصل فيه المجتمع السعودي صياغة هويته وتطوير حضوره في العالم. كل عام والمملكة وشعبها بخير، وقد خطوا خطوات جديدة على طريق الازدهار والاعتزاز بما يملكونه من تاريخ وإمكانات، وبما يقدّمونه للعالم من ثقافة راسخة ورؤية متجددة.