التاريخ المقنع: هل اليمن مسرح للتوراة أم ضحية السرد المتخيل؟

شارك:
تم نسخ الرابط بنجاح!
تقدّم هذه القراءة تفكيكًا منهجيًا لكتاب التاريخ المقنّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟ للأستاذ الدكتور عارف أحمد المخلافي، أستاذ التاريخ القديم بجامعة صنعاء، الذي يتناول فيه أطروحات ما يُعرف بـ«التوراتيين العرب» ومحاولاتهم نقل جغرافيا التوراة إلى اليمن وجنوب الجزيرة العربية اعتمادًا على التشابهات اللفظية والسرديات المتخيّلة. تركّز القراءة على مفهوم «التاريخ المقنّع» بوصفه نمطًا من الكتابة يفصل التاريخ عن شروطه العلمية، ويستبدل الوثيقة والحدث بالخيال والسرد الروائي، مع تتبّع تطور هذه الأطروحات من بداياتها الأولى وصولًا إلى أكثر نماذجها اكتمالًا وانتشارًا. كما تبيّن حدودها المنهجية وخطورتها المعرفية في سياق الصراع على الوعي والذاكرة. تهدف هذه القراءة إلى تثبيت الفرق بين البحث التاريخي المنضبط والسرد المتخيَّل، والدفاع عن صرامة المنهج العلمي في مواجهة محاولات تزييف التاريخ تحت عناوين الهوية أو الخصوصية الثقافية.

     قراءة في كتاب «التاريخ المقنّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟» للأستاذ الدكتور عارف أحمد المخلافي

   

منذ أن كان المؤلف الأستاذ الدكتور عارف أحمد المخلافي طالبًا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، راودته فكرة هذا الكتاب بوصفه مشروعًا للرد على الأعمال المتخيلة التي تجانب علم التاريخ، وتقوم على سرد حكايات تُسقط جغرافية التوراة على جغرافية اليمن الكبير دون قيامها على أسس وثائقية أو أحداث تاريخية قابلة للتحقق. وقد تطلّب هذا المشروع زمنًا طويلًا من الاشتغال والصبر، قبل أن يتبلور في صيغة كتاب يسعى إلى إعادة ضبط مفهوم التاريخ وحدوده المنهجية.

وبرغم أسبقية كمال صليبي في طرح أطروحة وجود التوراة في جزيرة العرب، فإن الصحفي والروائي فاضل الربيعي استطاع أن يجذب الانتباه إلى هذا المسار عبر كتبه المتكررة وحضوره الإعلامي الكثيف. ويُحسب له – من زاوية أدبية – امتلاكه قدرة روائية على التخيل والاختلاق، وهي قدرة قد تُثمر في حقل السرد الروائي، حيث يُسمح ببناء العوالم المتخيلة وصناعة الأساطير انطلاقًا من الخيال أو من اطلاع جزئي على التاريخ. غير أن هذه القدرة ذاتها تتحول إلى إشكالية منهجية حين تُنقل من حقل الأدب إلى حقل التاريخ، لأن كتابة التاريخ تفترض الالتزام بالوقائع والأحداث الموثقة، لا اختلاق سرديات موازية تشبه التاريخ من حيث الشكل، لكنها لا تنتمي إليه من حيث المنهج.

ويمكن تشبيه هذا الخلط بمحاولة شاعر كتابة خبر صحفي، حيث يفيض النص بالصور والانفعالات والتجربة الذاتية، لكنه يعجز عن الالتزام بدقة المعلومة وشروطها. ولو أن الربيعي وغيره من الرواة والروائيين قدّموا أعمالهم بوصفها روايات تاريخانية قائمة على الخيال، لانتقلت هذه الأعمال إلى حقلها الطبيعي، ولأُعفي المهتمون بالتاريخ من عناء تفنيد أطروحات جميلة أدبيًا، لكنها غير مُلزِمة علميًا، ولدخلت ضمن معايير النقد الأدبي لا النقد التاريخي.

ما يلفت النظر في عنوان الكتاب ليس جزءه الأول التاريخ المُقَنَّع، على أهميته ودلالته المباشرة على مضمون العمل وأهدافه، ولا الجزء الثالث نقد أطروحات التوراتيين العرب، الذي يصلح بدوره عنوانًا مستقلًا مكتملًا، بل الجزء الأوسط من العنوان: هل التاريخ حدث أم فكرة؟ وهو سؤال فلسفي ومنهجي في آن، استغرق من الباحث ما يقارب ثمانية عشر عامًا من التفكير والبحث، ويمكن النظر إلى الكتاب كله بوصفه محاولة ممتدة للإجابة عنه. وبهذا المعنى، يشكّل هذا السؤال مشكلة البحث المركزية التي تتفرع عنها بقية الأسئلة، ويمنح القارئ مفتاحًا واضحًا لفهم غاية الكتاب قبل الانتقال إلى فهرسه.

ينطلق المؤلف من تأصيل قواعد منهجية صارمة لفهم التاريخ، في مقدمتها قاعدته الأساسية: لا تاريخ بلا وثيقة، ولا وثيقة بلا حدث. وهنا يتضح جوهر السؤال المطروح في العنوان؛ فحين يخرج التاريخ عن إطار الوثيقة المرتبطة بحدث محدد، يتحول من علم قائم على البحث والتحقق إلى فكرة قابلة للتأويل المفتوح، وربما إلى سردية مفصولة عن شروطها العلمية.

وقد قُرئ هذا الكتاب على فترات متباعدة - وكتبت هذه القراءة على فترات متباعدة- لا بوصفه نصًا يُستهلك دفعة واحدة، بل بوصفه عملًا يستدعي الحوار والمساءلة، ويجرّ القارئ إلى عوالم معرفية أخرى وكتب موازية، بحثًا عن اختبار الأفكار ومقاربتها، لا التسليم بها تلقائيًا. وهي طريقة قراءة مرهقة، لا تتيح لصاحبها متعة الانغماس السردي أو عيش اللحظة، بقدر ما تدفعه إلى التنقل بين الحضور والغياب، والموافقة والاعتراض، والمقارنة والمراجعة.

تلزم منهجية الكتاب المؤلف بدقة عالية في عرض أطروحاته، ولا سيما في تعامله مع ما يسميه "جماعة التاريخ المُقَنَّع"، إذ يعمد إلى سرد مغالطاتهم واحدة تلو الأخرى، ثم يواجهها مواجهة مباشرة بالعودة إلى نصوصهم نفسها، والاشتباك معها نصًا بنص، وحجة بحجة، وفق القواعد التي وضعها منذ البداية. وبهذا المعنى، لا يتحول المنهج إلى شعار نظري، بل إلى أداة فحص تطبَّق باستمرار على الخصوم وعلى البناء النقدي معًا.

وأثناء قراءة الكتاب، لا يجد القارئ نفسه أمام مؤلف عابر في التاريخ، ولا أمام مقارنة سرديات متجاورة، بل أمام مشروع صاغه المؤلف بعناية، وهندسه بما يتناسب مع غايته البحثية، مشروع لا يتوقف عند هذا الجزء، وقد أعلنت دار عناوين بوكس عن جزء آخر سيصدر قريبًا، مع ما يوحي به ذلك من امتداد العمل إلى مساحات أوسع.

في سياق اليمن الراهن، حيث تتكاثر الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، وحيث يفرّ كثيرون من مواجهة مسؤوليات الحاضر بالانشغال بمعارك رمزية قليلة الكلفة، تبرز خطورة ما يمكن تسميته بـ "الصراعات المُقَنَّعة"، التي تعلن شيئًا وتنتج شيئًا آخر، وتتغلف بالمحلية بينما هي في جوهرها إقليمية ودولية وجزء من إعادة رسم خرائط المنطقة. وفي خضم هذا التيه، يصرّ المؤلف على الاشتغال على أخطر ساحات الصراع: صراع السرديات، مدركًا أن المصالح قد تتغير، والتوافقات قد تُعقد، لكن الصراع على الرواية التاريخية يظل صراعًا طويل الأمد على الإرادة والوعي.

لقد تلقّى بعض المتحمسين والمتعصبين أطروحات التاريخ المُقَنَّع بنوع من القبول، بوصفها مخرجًا نفسيًا من واقع مأزوم، فذهب بعضهم إلى تأصيل يهودية اليمن، أو التبشير بها بوصفها موطنًا أصليًا لليهود، متجاهلين أن اليمن – كغيره من بلدان العالم – عرف أديانًا ومذاهب وأفكارًا متعددة، دون أن تتحول أيٌّ منها إلى أصل عرقي أو هوية جامعة. وتكمن خطورة التاريخ المُقَنَّع في أنه يزيف وعي المؤيد والرافض معًا، ويفتح نقاشات عدمية لا تقوم على حقائق تاريخية علمية، ويضيف إلى جيل مثقل بالمآسي عبئًا جديدًا.

من هنا، يمكن النظر إلى مشروع التاريخ المُقَنَّع، بأجزائه الصادرة والمعلنة، بوصفه إسهامًا في إعادة بناء الوعي بالتاريخ اليمني، وفهم الماضي والحاضر، واستشراف المستقبل ضمن أفق علمي منضبط، وهو إسهام ضروري في لحظة تتكاثر فيها السرديات، ويشتد فيها الصراع على الذاكرة والمعنى.

يُقسَّم كتاب التاريخ المُقنَّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟ للأستاذ الدكتور عارف أحمد المخلافي إلى ثلاثة أقسام رئيسة، يندرج تحت كل منها عدد من الفصول وفق منطق بنيوي خاص بالمؤلف. غير أن هذه القراءة لا تتبع التقسيم البنيوي للكتاب بحرفيته، بل تعتمد تقسيمًا تحليليًا مستقلًا، يقوم على تفكيك المحتوى وفق محاور مستخلصة من مجمل الكتاب، لا من عناوين أقسامه.

وعليه، فإن التقسيم المعتمد في هذه القراءة (إلى ستة محاور) لا يُمثّل إعادة ترتيب لأقسام الكتاب، ولا تعديلًا في بنيته، بل هو تنظيم لنتائج القراءة، يهدف إلى إبراز منطق الاشتغال المنهجي، ومسارات الحجاج، وآليات التفكيك التي اعتمدها المؤلف في مواجهة ما يسميه بـ«التاريخ المُقنَّع». وبذلك، تبقى بنية الكتاب محفوظة كما هي، فيما تأتي هذه المحاور بوصفها أدوات قراءة، لا بدائل عن تقسيم المؤلف.

 

القسم الأول: الإطار المفاهيمي والمنهجي

يفتتح المؤلف كتابه بتأسيس مفهومي ومنهجي دقيق، يهدف من خلاله إلى ضبط موضوع النقد قبل الدخول في تفكيك الأطروحات محل الخلاف. ويأتي ذلك عبر تقديم مصطلح مركزي جديد هو «التاريخ المُقنَّع»، ثم الانتقال إلى إعادة تأكيد شروط كتابة التاريخ القديم بوصفه علمًا قائمًا على الوثيقة والحدث، لا على التخمين أو الإسقاط.

 

1.    مفهوم التاريخ المُقنَّع

يبتكر المؤلف مصطلح «التاريخ المُقنَّع» بوصفه أداة تحليلية نقدية، لا بوصفه توصيفًا إنشائيًا أو حكمًا أخلاقيًا. ويقصد به نمطًا من السرديات التاريخية التي تقوم على نقل الجغرافيا من سياقها الأصلي إلى سياق آخر، اعتمادًا على تشابهات لفظية سطحية في أسماء المواقع والأعلام، مع إخضاع هذه الأسماء لعمليات تحريف وإعادة تركيب، بما يسمح بإنتاج "تاريخ بديل" يبدو في ظاهره متماسكًا، لكنه يفتقر إلى أي أساس وثائقي صلب.

ويميز المؤلف بوضوح بين هذا النمط من الكتابة التاريخية وبين أشكال أخرى من الانحراف عن المنهج العلمي. فالتاريخ المزوَّر يقوم على استبدال معلومة صحيحة بأخرى خاطئة، والتاريخ المحرَّف يمنح أدوارًا تاريخية لشخصيات لم تشارك فعليًا في الحدث، أما «التاريخ المُقنَّع» فيُبقي الأسماء والأدوار ظاهريًا، لكنه يعيد ترتيبها داخل سياق متخيَّل، بما ينتج سردية مكتملة توهم القارئ بأنها تاريخ، بينما هي في حقيقتها بناء ذهني مفصول عن شروط الحدث والوثيقة.

بهذا المعنى، لا ينظر المؤلف إلى «التاريخ المُقنَّع» بوصفه مجرد خطأ جزئي أو سوء قراءة، بل بوصفه ممارسة أوسع وأعمق، تسعى إلى بناء سردية بديلة كاملة، قادرة على الانتشار والإقناع، خصوصًا لدى القارئ غير المتخصص، في ظل ضعف أدوات النقد التاريخي في المجال العام.

ومن منظور فلسفة التاريخ، يضع هذا التعريف المسألة في صلب الجدل القديم حول العلاقة بين الحدث والفكرة. فالتاريخ العلمي، كما استقر في تقاليد الكتابة التاريخية الحديثة، يجعل الوثيقة نقطة الانطلاق، على نحو ما عبّر عنه ليوبولد فون رانكه في مقولته الشهيرة عن مهمة المؤرخ بوصفها «إظهار ما جرى بالفعل». في المقابل، ينتمي «التاريخ المُقنَّع» إلى نمط من الكتابة يبدأ بالفكرة أو الفرضية المسبقة، ثم يبحث عن شواهد لغوية أو تأويلات انتقائية لتبريرها، وهو منهج أقرب إلى السرد الأدبي أو البناء الأيديولوجي منه إلى البحث التاريخي.

تكمن خطورة هذا النمط، كما يبيّن المؤلف، في قدرته على التسلل إلى الذاكرة الجمعية، وإنتاج وعي تاريخي زائف لا يقوم على التزوير المباشر فحسب، بل على الإقناع السردي، وهو ما يجعله أكثر تأثيرًا وأصعب تفكيكًا.

 

2.    منهجية كتابة التاريخ القديم

بعد ضبط المفهوم، ينتقل المؤلف إلى إعادة تأكيد الأسس المنهجية لكتابة التاريخ، ولا سيما التاريخ القديم، بوصفه حقلًا معرفيًا لا يحتمل التساهل في شروطه. ويحدد أربعة أركان رئيسة لا تقوم الكتابة التاريخية بدونها: الوثيقة بوصفها المادة الأصلية التي تسجل فعل الإنسان في الزمن؛ والمنهج الذي يضبط نقد الوثائق، والتحقق من أصالتها، وتمييز الصحيح من المزيف؛ والحياد الذي يمنع إخضاع القراءة للتوجهات المسبقة؛ والموضوعية التي تفرض على الباحث قبول النتائج حتى عندما تصطدم بقناعاته الخاصة.

ويحذّر المؤلف من الانزلاق إلى استخدام الخيال بوصفه بديلًا عن الوثيقة. فالخيال، في نظره، لا يكون مشروعًا إلا في حدود إعادة تركيب المشهد التاريخي انطلاقًا من معطيات موثوقة، أما حين يتحول إلى أداة تفسيرية مستقلة، أو إلى وسيلة لسدّ فجوات المعرفة، فإنه يفقد مشروعيته العلمية ويتحول إلى تزوير مقنّع.

يلتقي هذا الطرح مع تقاليد نقدية راسخة في التراثين العربي والغربي. فقد نبّه ابن خلدون مبكرًا إلى خطورة النقل غير الممحص، وعدّه مدخلًا للوهم في كتابة التاريخ، كما جعلت المدرسة النقدية الحديثة، عند لانغلو وسانت بوف، الوثيقة في موقع «السيادة» على المؤرخ، لا العكس. ويستعيد المؤلف هذه القواعد لا بوصفها مسلّمات نظرية، بل بوصفها أدوات ضرورية لمواجهة الممارسات التي ينقدها.

قوة هذا القسم لا تكمن في ابتكار هذه القواعد، بقدر ما تكمن في إعادة تفعيلها في مواجهة واقع معرفي باتت فيه بديهيات المنهج محل تجاوز أو تجاهل. فمقولة «لا تاريخ بلا وثيقة، ولا وثيقة بلا حدث» تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تشكل، في سياق هذا الكتاب، أساسًا صلبًا لتفكيك السرديات التي تفصل التاريخ عن شروطه العلمية.

يؤسس هذا القسم الإطار المفاهيمي والمنهجي الذي يقوم عليه الكتاب بأكمله. فهو يضع مصطلح «التاريخ المُقنَّع» في موقع تحليلي واضح، ويميزه عن أشكال التزوير والتحريف الأخرى، ويعيد تثبيت شروط الكتابة التاريخية بوصفها علمًا له أدواته وحدوده. ومن منظور نقدي، ينجح المؤلف في تقديم أداة تساعد على تصنيف أطروحات «التوراتيين العرب» وفحصها، وإن كان من الممكن لاحقًا توسيع هذا النقاش وربطه بجدل عالمي أوسع حول «التاريخ البديل» ونقاشات ما بعد الحداثة في الكتابة التاريخية، وهي نقاشات لا تقتصر على السياق العربي وحده.

 

القسم الثاني: جماعة «التاريخ المُقنَّع» بوصفها ظاهرة معرفية

بعد أن يضبط المؤلف مفهوم «التاريخ المُقنَّع» ويؤسس شروط الكتابة التاريخية المنضبطة، ينتقل في هذا القسم إلى توصيف الظاهرة التي تقف خلف هذا النمط من السرد بوصفها ممارسة كتابية وإعلامية أكثر منها تيارًا علميًا منظمًا. ولا يتعامل معها كمدرسة تاريخية متماسكة، بل كشبكة من الكتّاب تجمعهم مقاربة واحدة، رغم اختلاف الخلفيات والمسارات.

1.     تعريف الجماعة وطبيعة تكوينها

يستخدم المؤلف وصف «جماعة التاريخ المُقنَّع» للدلالة على كتّاب عرب ظهروا منذ ثمانينيات القرن العشرين، واشتغلوا على إعادة رسم جغرافيا التوراة عبر نقلها من فلسطين التاريخية إلى فضاءات أخرى في جنوب الجزيرة العربية، ولا سيما عسير واليمن. ويلاحظ أن كثيرًا منهم لا ينتمي إلى حقل التاريخ الأكاديمي بمعناه الصارم، وهو ما ينعكس على أدواتهم ومناهجهم، وعلى طبيعة الاستدلال الذي يعتمدونه.

2.     منطق الاشتغال وآلياته المشتركة

ما يجمع هذه الكتابات ليس اتفاقها على تفاصيل بعينها، بل اشتراكها في منطق لغوي–سردي يقوم على التشابه اللفظي للأسماء بوصفه «دليلًا»، مع تفكيك السياق الزمني والمكاني للأحداث، وإزاحة الوثيقة الأثرية أو جعلها عنصرًا ثانويًا. وتُعاد عملية تركيب الجغرافيا التوراتية وفق هذا المنطق لتنتج «سردية بديلة» تبدو متماسكة في ظاهرها، لكنها تقوم على نقل المواقع وإعادة تسمية الأمكنة وإخضاع الأعلام لتحويرات تسمح بملاءمتها للفرضية.

3.     البعد الإعلامي وتوسّع التأثير

يربط المؤلف رواج هذا النمط بقابليته الإعلامية: لغة سهلة، ادعاءات كبيرة، وحكايات قابلة للتداول، ومحتوى يشتغل على إثارة الدهشة أكثر مما يشتغل على بناء الدليل. ومع انتقال هذه الأطروحات إلى الفضاء التلفزيوني ووسائل التواصل، اتسع تأثيرها في الوعي العام بما يفوق وزنها العلمي، خصوصًا لدى القارئ غير المتخصص.

4.     حدود الظاهرة ووظيفتها داخل البناء العام

لا يهدف هذا القسم إلى مناقشة مشاريع بعينها أو تفصيل نماذج محددة، بل إلى ضبط السمات المشتركة للظاهرة بوصفها نمطًا من إنتاج «تاريخ بديل» قائم على التحوير اللغوي وإعادة تركيب الجغرافيا، مع ضعف الارتكاز على الوثيقة والتسلسل الزمني. وبذلك يمهّد للانتقال إلى التفكيك التطبيقي في الأقسام اللاحقة دون استباق تفاصيل الصليبي أو الربيعي التي تُناقش لاحقًا في مواضعها.

 

القسم الثالث: الدراسات السابقة والجبهة النقدية الأكاديمية

بعد أن يعرّف المؤلف بمفهوم «التاريخ المُقنَّع» ويحدّد سماته العامة بوصفه نمطًا سرديًا خارج شروط البحث التاريخي المنضبط، ينتقل في هذا القسم إلى استعراض الجهود النقدية الأكاديمية التي واجهت أطروحات «التاريخ البديل» في سياقاتها المختلفة. ولا يتعامل المؤلف مع هذه الجهود بوصفها ردودًا شخصية أو سجالات ظرفية، بل باعتبارها تعبيرًا عن موقف منهجي متكرر، صدر عن باحثين من تخصّصات متعددة، يجمعهم الاحتكام إلى الوثيقة والأثر والتسلسل الزمني.

 

1. الدراسات الأكاديمية المتخصصة

يعرض المؤلف عددًا من الدراسات الأكاديمية التي تمثّل الأساس العلمي للنقد الموجّه إلى أطروحات نقل الجغرافيا التوراتية. ففي مجال تاريخ وآثار مصر القديمة، قدّم عبد المنعم عبد الحليم سيد دراسة أعادت تثبيت الإطار التاريخي للعلاقة بين بني إسرائيل ووادي النيل، اعتمادًا على المعطيات النقشية والبردية، مؤكّدًا أن هذه الشواهد تحسم الجدل حول موقع «مصر» التوراتية بوصفها كيانًا جغرافيًا وتاريخيًا محددًا، لا مفهومًا لغويًا قابلًا للنقل.

وفي حقل الميثولوجيا والتاريخ القديم، قدّم فراس السواح قراءة نقدية ربطت النص التوراتي بسياقه المشرقي في بلاد الشام وبلاد الرافدين، معتبرًا أن محاولات نقله إلى جنوب الجزيرة العربية تفكك بنيته الحضارية، وتُخضعه لتأويلات لغوية منفصلة عن شروطه التاريخية.

ويعزّز هذا الاتجاه ما قدّمه عفيف بهنسي، الذي انطلق من علم الآثار ليؤكد أن فلسطين وسوريا تزخران بالشواهد المادية المرتبطة بالممالك التوراتية، في مقابل غياب أي دليل أثري في اليمن يدعم فرضيات النقل الجغرافي. 

كما تناول فكري آل هير منهجية بعض كتاب «التاريخ البديل»، مبرزًا أن أدواتهم أقرب إلى السرد الأدبي منها إلى البحث التاريخي، حيث يُستبدل التحقق الوثائقي بآليات لغوية وانتقائية.

ويكتمل هذا المسار بدراسة عبد الله بن أحمد الفيفي، التي ركّزت على البعد اللغوي، وأثبتت أن التشابه اللفظي لا يصلح، في ذاته، أساسًا لبناء تاريخ، ما لم يُدعَم بوثيقة وحدث وسياق زمني قابل للتحقق.

 

2. العروض النقدية

إلى جانب الدراسات الأكاديمية المتخصصة، يستعرض المؤلف عددًا من العروض النقدية التي ناقشت ظاهرة «نقل الجغرافيا» من زاوية منهجية عامة. فقد قدّم محمود أبو طالب عرضًا تحليليًا ركّز فيه على الإشكالات المنهجية العامة لهذا النوع من الكتابة، دون أن يتناول مشروع فاضل الربيعي أو غيره من الأسماء بعينها، مؤكدًا أن التاريخ لا يُبنى بوصفه نصًا لغويًا مجردًا، بل منظومة من الشواهد المترابطة.

كما تناول المؤرخ علي سدران بعض نماذج هذا الاتجاه، مقتصرًا في نقده على أعمال أحمد بن سعيد قشاش، دون التطرّق إلى مشروع فاضل الربيعي، ومركّزًا على الطابع الانتقائي في استخدام اللغة وإغفال السياق التاريخي.

 

3. المقالات النقدية

ويمتد هذا النقد إلى مقالات علمية وثقافية كتبها باحثون مهتمون بتاريخ الجزيرة العربية واليمن القديم. فقد نبّه حمد الجاسر إلى خطورة التعامل مع الجغرافيا بوصفها لعبة لغوية، مؤكدًا أن المكان التاريخي يُحدَّد بالشواهد لا بالأسماء المتشابهة.

كما أشار الدكتور عبد العزيز المقالح إلى أن هذه السرديات تُغذّي الوهم الشعبي، وتستبدل النقد التاريخي بإعادة تخييل الماضي. وفي السياق نفسه، أكّد سليمان بن عبد الرحمن الذيب أن النقوش العربية الجنوبية لا تسند أيًّا من فرضيات النقل التوراتي، وأن غياب الدليل النقشي كافٍ لإسقاط هذه الادعاءات من منظور علم النقوش.

أما عبد الله أبو الغيث، فقد ناقش هذه الأطروحات من زاوية تاريخ اليمن القديم، مبيّنًا غياب أي شواهد تاريخية تثبت وجود ممالك إسرائيلية أو يهودية بالمعنى الذي تروّجه هذه السرديات، دون الوصول إلى تعميمات أو خلاصات تتجاوز هذا الإطار.

 

4. الدلالة المنهجية للقسم

يكشف هذا القسم أن مواجهة «التاريخ المُقنَّع» لم تكن جهدًا فرديًا أو ردّ فعل معزولًا، بل مسارًا نقديًا متراكمًا، تشكّل عبر دراسات وعروض ومقالات، تجمعها مرجعية واحدة: أولوية الوثيقة، وضرورة الحدث، واحترام التسلسل الزمني. وبذلك، يضع المؤلف هذه الجبهة النقدية في موقعها الطبيعي داخل البناء العام للكتاب، تمهيدًا للانتقال من توصيف النقد إلى تفكيك النماذج التطبيقية في الأقسام اللاحقة.

 

القسم الرابع: مرتكزات فاضل الربيعي ونماذج «التقنيع»

يمثّل هذا القسم المحور التطبيقي الأهم في الكتاب، إذ ينتقل فيه المؤلف من تفكيك الظاهرة العامة لما يسميه «التاريخ المُقنَّع» إلى تحليل مشروع محدد بعينه، هو مشروع فاضل الربيعي، بوصفه النموذج الأكثر اكتمالًا وانتشارًا داخل هذه الجماعة. ولا تنبع أهمية هذا الاختيار من غزارة إنتاج الربيعي وحدها، بل من قدرته على بناء سردية بديلة متماسكة ظاهريًا، مدعومة بحضور إعلامي كثيف، ما يجعل تفكيكها ضرورة معرفية، لا مجرد اختلاف في الرأي.

 

1. المزامنة بين سبأ وذي ريدان وإسرائيل ويهوذا

ينطلق الربيعي من فرضية مركزية مفادها أن مملكتي سبأ وذي ريدان في اليمن تمثلان في الحقيقة مملكتي إسرائيل ويهوذا الواردتين في النص التوراتي. ويعتمد في ذلك على تشابهات لفظية بين أسماء بعض ملوك سبأ وأسماء ملوك بني إسرائيل، مثل الربط بين «عمري» و«عُمري»، أو بين «آخاب» و«أحبب» كما ترد في بعض النقوش اليمنية.

يعيد المؤلف فحص هذه الفرضية بالرجوع إلى شرط حاسم في الكتابة التاريخية، هو التسلسل الزمني. فالمعطيات الأثرية والنقشية الخاصة بممالك سبأ وذي ريدان لا تتطابق زمنيًا مع الفترات المنسوبة لملوك إسرائيل ويهوذا في المصادر التوراتية، ولا في السجلات الآشورية والمصرية. وبذلك، يفقد التشابه اللفظي قيمته التفسيرية، ويتحول من قرينة محتملة إلى إسقاط تعسفي يُلغى فيه الزمن بوصفه عنصرًا حاسمًا في كتابة التاريخ.

 

2. «مصر» التوراتية في الجوف اليمني

يتقدم الربيعي خطوة أبعد حين يفترض أن «مصر» المذكورة في التوراة لا تشير إلى وادي النيل، بل إلى منطقة في الجوف اليمني، مستندًا إلى تشابه لفظي بين الاسم وبعض المسميات المحلية. ويترتب على هذا الافتراض إعادة بناء كاملة لرواية الخروج، بحيث لا يعود خروجًا من مصر النيلية عبر سيناء، بل من «مصر يمنية» باتجاه الشمال.

يواجه المؤلف هذا الطرح بالعودة إلى corpus واسع من الوثائق المصرية، من البرديات إلى النقوش الملكية، التي تثبت وجود بني إسرائيل في السياق المصري القديم، وتؤكد أن «مصر» في الرواية التوراتية ليست مفهومًا لغويًا عائمًا، بل كيانًا جغرافيًا وتاريخيًا محددًا. ويُظهر هذا التفكيك أن نقل «مصر» من موقعها التاريخي لا يستند إلى إعادة قراءة للوثائق، بل إلى تجاهلها لصالح فرضية لغوية معزولة.

 

3. الفراعنة بوصفهم ملوكًا يمنيين

ضمن السياق نفسه، يزعم الربيعي أن بعض الفراعنة المذكورين في التوراة، مثل شيشانق الأول أو نخو الثاني، لم يكونوا ملوكًا في مصر، بل حكامًا يمنيين. ويقوم هذا الزعم على تحريف الأسماء وإعادة إسقاطها على سياق جغرافي مختلف.

يفنّد المؤلف هذا الادعاء بالعودة إلى النقوش المصرية ذاتها، التي تسجل حملات هؤلاء الملوك في فلسطين وبلاد الشام تسجيلًا دقيقًا، وتحدد مواقعها الجغرافية بوضوح. وتكشف هذه المقارنة أن الإشكال لا يتعلق بندرة الأدلة أو غموضها، بل بتجاهلها حين تتعارض مع الفكرة المسبقة.

 

4. إعادة بناء مسار الخروج

يمتد هذا النمط من الاشتغال إلى إعادة رسم مسار خروج بني إسرائيل، حيث يرى الربيعي أن النبي موسى قاد قومه للخروج من «مصر اليمنية» عبر مسار يمني–شامي، متجاوزًا سيناء ووادي النيل. ويشير المؤلف إلى أن هذا الطرح لا يتعارض فقط مع النصوص التوراتية، بل مع الجغرافيا الطبيعية نفسها، بما في ذلك توصيف عبور البحر، فضلًا عن الدراسات الجيولوجية والجغرافية الخاصة بسيناء ومحيطها.

 

5. نماذج تطبيقية من مؤلفات الربيعي

يعزّز المؤلف تحليله بسلسلة من الأمثلة التطبيقية المباشرة من كتب الربيعي، مثل مصر الأخرى ويهوذا والسامرة. ففي هذه الأعمال تُعاد قراءة النقوش اليمنية باعتبارها سجلات لملوك يهوذا، وتُحوَّل الحملات الآشورية الموثقة في فلسطين وسوريا إلى حملات استهدفت اليمن، رغم أن النصوص الآشورية نفسها، المحفوظة في المتاحف العالمية، تحدد مواقع هذه الحملات بدقة جغرافية قاطعة.

كما يبرز المؤلف آلية تحريف الأسماء بوصفها أداة مركزية في هذا المشروع، حيث تُساوى «أورشليم» بمدينة يمنية، وتُحوَّل «السامرة» إلى بلدة محلية، في عملية لغوية تهدف إلى إنتاج سردية متخيلة متماسكة في ظاهرها.

 

6. التقييم المنهجي الشامل

في ضوء هذه النماذج، يخلص المؤلف إلى أن مشروع الربيعي يقوم على منهج معكوس: يبدأ بفرضية مسبقة، هي يمننة التوراة، ثم يبحث عن تشابهات لفظية وتأويلات انتقائية لتدعيمها، مع إهمال التسلسل الزمني وتراكم الأدلة الأثرية. وبهذا، لا يندرج هذا المشروع ضمن نقاش أكاديمي مشروع حول «التاريخ البديل»، بل ضمن ما يسميه المؤلف «التاريخ المُقنَّع»، لأنه يخفي الخيال تحت قناع البحث العلمي.

يكشف هذا القسم أن مشروع فاضل الربيعي يمثل النموذج الأكثر اكتمالًا لـ«التاريخ المُقنَّع» من حيث البناء السردي، وتعدد المؤلفات، والانتشار الإعلامي. غير أن هذا الاكتمال الشكلي يقابله فراغ منهجي واضح، إذ يقوم المشروع في جوهره على التشابه اللفظي والتحريف الجغرافي، دون أي سند أثري أو وثيقة تاريخية قابلة للتحقق. ويبرهن المؤلف، عبر تفكيك المرتكزات واحدًا واحدًا، أن ما يُقدَّم بوصفه إعادة كتابة جريئة للتاريخ ليس سوى تاريخ متخيَّل، يفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية الأكاديمية.

 

القسم الخامس: كمال الصليبي وبدايات نقل الجغرافيا

يخصّص المؤلف هذا القسم لمناقشة أطروحة كمال الصليبي كما وردت في كتابه التوراة جاءت من جزيرة العرب (1985)، لا بوصفها نموذجًا تطبيقيًا لـ«التاريخ المُقنَّع» بالمفهوم الذي سيُفصَّل لاحقًا، بل باعتبارها اللحظة التأسيسية التي أدخلت فكرة «نقل الجغرافيا» إلى حقل الكتابة التوراتية العربية، ومهّدت لظهور مسار كامل من السرديات اللاحقة.

1) الصليبي: الفرضية وحدودها المنهجية

تنطلق أطروحة الصليبي من فرضية لغوية–جغرافية مفادها أن مواقع الأحداث التوراتية لا تقع في فلسطين التاريخية، بل في منطقة عسير جنوب الجزيرة العربية. ويعتمد هذا النقل أساسًا على التشابه الصوتي بين أسماء مواضع توراتية وأسماء أماكن معاصرة في عسير، بما يسمح بإعادة إسقاط الخريطة التوراتية على فضاء جغرافي مختلف.

يتوقف المؤلف عند هذه الفرضية من زاوية منهجية بحتة، دون الدخول في تفنيد تفصيلي للأمثلة، مبيّنًا أن الإشكال المركزي لا يكمن في طرح سؤال جديد حول الجغرافيا التوراتية، بل في تحويل التشابه اللفظي إلى قاعدة تفسيرية شبه مطلقة، مع تقليص وزن الشواهد الأثرية والسياقات الزمنية التي تُعدّ شرطًا حاسمًا في كتابة التاريخ القديم.

بهذا المعنى، تمثّل أطروحة الصليبي انتقالًا من سؤال لغوي قابل للنقاش إلى إعادة بناء سردية تاريخية كاملة اعتمادًا على أداة واحدة، وهو ما يجعلها لحظة تأسيسية لمسار لاحق، بصرف النظر عن تقييمها العلمي.

2) من الفرضية إلى التقليد الكتابي

يركّز المؤلف في هذا الجزء على ما تلا الصليبي، لا على الصليبي ذاته. إذ يلاحظ أن الفرضية التأسيسية تحوّلت، في عدد من المؤلفات اللاحقة، إلى تقليد كتابي قابل للاستنساخ:

  • يُنقل الموقع الجغرافي مرة إلى اليمن،
  • ومرة إلى فضاءات أخرى،
  • بينما تبقى الأداة المنهجية نفسها دون تطوير نوعي.

ويبيّن المؤلف أن كثيرًا من هذه الأعمال لا تضيف إلى الفرضية الأولى سوى توسيع المجال الجغرافي أو إعادة تسمية الأمكنة، دون تقديم وثائق أثرية جديدة أو معالجة إشكالات التسلسل الزمني. وهكذا، تتضخم السردية عبر التكرار، لا عبر التراكم العلمي.

3) موقع هذا القسم في البناء العام

وظيفة هذا القسم ليست توصيف الظاهرة (وهو ما أنجزه القسم الثاني)، ولا تفكيك النماذج التطبيقية (وهو ما سيتولاه القسم الرابع)، بل تثبيت نقطة الانطلاق التي جعلت «نقل الجغرافيا» أداة ممكنة ومتداولة في الكتابة التاريخية العربية المعاصرة.

وبهذا، يعمل القسم بوصفه حلقة وصل تحليلية:

  • تربط بين التعريف النظري للظاهرة،
  • وبين التفكيك التطبيقي لأكثر نماذجها اكتمالًا وانتشارًا.

ويخلص المؤلف إلى أن أطروحة الصليبي، مهما اختلف التقييم العلمي لها، مثّلت منعطفًا حاسمًا في فتح أفق «التاريخ البديل» القائم على النقل الجغرافي، وأن جزءًا كبيرًا من الكتابات اللاحقة لم يخرج عن الإطار المنهجي الذي دشّنته، بل أعاد إنتاجه بصيغ أكثر اتساعًا وأقل انضباطًا.

 

القسم السادس: خاتمة القراءة – في حدود التاريخ ومعنى الوثيقة

بعد هذا الاستعراض لمشاريع كمال الصليبي، وفاضل الربيعي، ولسلسلة المؤلفات التي يضعها المؤلف ضمن ما يسميه «التاريخ المُقنَّع»، لا يتجه الكتاب إلى إصدار أحكام تقريرية أو استخلاصات مغلقة، بقدر ما ينشغل بتفكيك آليات اشتغال هذا النمط من الكتابة، وحدوده المعرفية، وموقعه خارج تقاليد البحث التاريخي المنضبط.

ومن منظور قرائي نقدي، يقدّم هذا الكتاب مفهوم «التاريخ المُقنَّع» بوصفه أداة تحليلية لفهم خطاب «التاريخ البديل» في السياق العربي، لا من حيث نتائجه الظاهرة فقط، بل من حيث بنيته الداخلية ومنطقه السردي وآليات اشتغاله. وتتجلّى قيمة هذا المفهوم، بعد هذا المسار التحليلي، في قدرته على تتبّع هذه السرديات منذ لحظة تأسيسها الأولى، والكشف عن القواسم المشتركة التي تحكمها، وفي مقدمتها نقل الجغرافيا، والتشابه اللفظي، وتغييب الوثيقة. وبذلك ينجح الكتاب في تثبيت الحدّ الفاصل عمليًا بين ما يشتغل بوصفه تاريخًا قائمًا على الوثيقة والحدث، وما يُنتَج بوصفه سردية متخيّلة، مهما بلغت جاذبيتها أو اتسع انتشارها، دون الحاجة إلى إعادة تعريف التاريخ بقدر ما إلى تأكيد حدوده بعد اختبارها نقديًا.

ويكتسب الكتاب قيمته بوصفه عملًا يضع حدًا فاصلًا بين التاريخ بوصفه علمًا قائمًا على الوثيقة والحدث، والتاريخ بوصفه سردية متخيّلة تتخفّى وراء لغة البحث. وهو، بذلك، لا يكتفي بتفنيد أطروحات بعينها، بل يعيد طرح سؤال المنهج وحدود الخيال في الكتابة التاريخية، ويذكّر بأن جاذبية السرد لا تُغني عن صرامة الدليل.

خاتمة

يمثّل كتاب التاريخ المُقنَّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟ للأستاذ الدكتور عارف أحمد المخلافي اشتغالًا نقديًا طويل النفس، يسعى إلى إعادة تثبيت المعنى العلمي للتاريخ في مواجهة سرديات تتوسّل الخيال واللغة لإنتاج ماضٍ بديل. وهو، في جوهره، دفاع عن التاريخ لا بوصفه سجلًا منتهيًا، بل بوصفه شرطًا معرفيًا لفهم الحاضر، وحدًّا فاصلًا بين البحث والتخييل، وبين الوثيقة والحكاية.

مقالات قد تهمك