في اليمن، يتجدد الصراع بين التخلف وحلم الدولة الحديثة، بينما يظل كرسي العرش رمزًا للتنافس الدموي على السلطة. هذا المقال يحلل جذور الأزمة الثقافية والسياسية، ويستعرض نماذج ناجحة من دول أخرى، ليقدّم رؤية لكيفية كسر دائرة الفوضى وبناء يمن مدني ديمقراطي يقوم على التعايش والنهضة.
بقلم : البروفيسور عارف المخلافي، أستاذ تاريخ الشرق القديم والجزيرة العربية بجامعة صنعاء.
الحراك الثقافي وأهمية الحوار
بداية، لا بد من التأكيد على أن لكل إنسان الحق في أن يقول أو يكتب ما يشاء، ولا يجوز لأحد أن يطالبه بالتنازل عن هذا الحق، أو التوقف عنه، أو تغيير مسار تفكيره. وفي المقابل، لا يحق لمن يكتب كتابًا أن يمنع الآخرين من معارضته والاختلاف معه، أو أن يتأثر بردود أفعالهم.
فهذا التفاعل هو الحراك الثقافي المطلوب، الذي يثير العقل ويدفع إلى التفكير، ويؤسس لفعل ورد فعل يثري الحوار، ويُنمّي القدرة على تقبّل الآخر. وهو أيضًا أساس تطور المعرفة وصناعتها، وركيزة لنمو العقل والنضج، بما يقود إلى مجتمع سليم نطمح إليه في بيئتنا اليمنية والعربية، ويساعد على تحقيق تقارب وتعايش حضاري يساهم في البناء، بدل أن ينحصر في الهدم بلا هدف.
ومن جانب آخر، فإن أي كتاب يصدر عن شخص ما تصبح أطروحاته، بمجرد نشره، ملكًا للقراء والباحثين المتخصصين من حيث القراءة وفحص المضامين. وهنا لا يكون النقد، سواء كان سلبيًا أو إيجابيًا، موجهًا إلى الشخص ذاته ــ وإن ذُكر اسمه ــ بل إلى أفكاره وأطروحاته التي تبناها أو أنتجها بنفسه. وهذا النوع من النقد لا يتقنه إلا المثقفون وأصحاب المعرفة الحقيقية، وليس الهواة أو من يسعون وراء الظهور والشهرة.
فما نشهده، على سبيل المثال، من مؤلفات قوية وناضجة في الغرب، يعود إلى الحراك الفكري الذي يقوده العلماء والمفكرون والمثقفون، سواء عبر الأبحاث أو الكتب. فهذا يكتب، وذاك يناقش ما كُتب، وآخر يتفق، وغيره يعارض، فتتشكل من هذا التفاعل صناعة للمعرفة وتطور في التفكير، مع تدريب عملي على التعايش رغم التباينات. وهي تباينات لا ينبغي أن تُختزل في مجرد خلافات هدفها الظهور بمظهر المؤيد أو المعارض فحسب.
الجانب المهم هنا، وهو ما نراه بوضوح في كثير من البلاد العربية، يكمن في الفرق بيننا وبين المجتمعات الغربية. فهم يتنافسون فكريًا وعلميًا على إنتاج المعرفة، لا على نشر الجهل، ويسعون إلى الإبداع لا إلى الجمود. ومن يعارض كاتبًا هناك، يكون غالبًا بمستواه العلمي والفكري والثقافي، فيستطيع أن يقدم نقاشًا علميًا رصينًا. وهذا لا يعني التقليل من حق الناس في التعبير عن آرائهم، بل المقصود أن الحوار حين يكون بين ندّين يكون أعمق وأكثر فائدة.
فمثقفوهم، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا، يصدرون كتبًا وأبحاثًا للرد على من يخالفونهم، بلا مجاملات، فتتحول أفكارهم إلى أطروحات ونظريات يتداولها الباحثون. فالعلم والرأي عندهم حق كما الحياة حق. أما في بلداننا، فكثيرًا ما نرى ردودًا متسرعة، إما عبر مقاطع مسجلة تكشف الجهل والتخلف، أو مقالات مندفعة يكتبها أصحابها دون أن يقرأوا أصل الكتاب الذي يهاجمونه. وغالبًا ما يعتمدون على السماع والانطباعات السطحية، ثم يزعمون أنهم قرؤوا وفهموا. والحقيقة أنهم لم يطالعوا حتى صفحاته، وبعضهم لا يدرك ما يسمع أصلًا، فيظهر كحاطب ليل لا يعرف أين يقع فأسه، مع كامل الاحترام للجميع.
غياب الثورة الثقافية في اليمن
ووفقًا لما تقدم، أرى أن ما يجري في بلادنا الحبيب، اليمن، سببه الأول والأخير هو الجهل. فمنذ قيام الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، لم نشهد برنامجًا وطنيًا شاملًا يقود ثورة ثقافية واسعة النطاق، لا تقتصر على بناء مدرسة أو جامعة أو مركز بحث، بل تمتد إلى بناء الإنسان المنتج، وصناعة مجتمع متعايش ومتكامل يكون انتماؤه الأول والأخير لدينه ووطنه.
فالانتماء إلى قبيلة أو سلالة أو عشيرة أو فكر أو عقيدة أو مذهب، لا ينبغي أن يتجاوز حدود الحق الشخصي. فمن حق كل فرد أن يعتز بهويته، لكن ليس من حقه أن يفرضها على غيره أو يلغي الآخرين لمجرد اختلافهم عنه. فالنموذج الذي تراه أنت مثاليًا قد يراه غيرك عكس ذلك. وهنا تكمن المعضلة التاريخية التي تتوارثها الأجيال في اليمن، نتيجة إهمال الثورة الثقافية التي كان يفترض أن تواكب الثورة السياسية وتؤسس لنهضة حقيقية.
إن الثورة الثقافية الواسعة، المترافقة مع بناء الدولة القوية لا التابعة لها، كان ينبغي أن تبدأ منذ اليوم الأول للثورة أو لحظة الاستقلال، دون إقصاء أو تهميش لأي فئة. فنحن في اليمن، على سبيل المثال، نبني دولة ثم نهدمها، ونؤسس جيشًا ثم ندمره، ونسعى للتقارب المجتمعي ثم نعود إلى نقطة الصفر. وهكذا ندور في حلقة مفرغة، لا يتغير فيها سوى الأسماء والوجوه، فمرة نرى رئيسًا جديدًا، وأخرى انقلابًا، ثم حروبًا وصراعات لا تنتهي. ومن هنا، تصبح الثورة الثقافية حجر الأساس الذي يُبنى عليه الوطن، ويُقام عليه الاقتصاد، ويُصان به الأمن والاستقرار.
ما المقصود بالثورة الثقافية في اليمن؟
الثورة الثقافية هنا تعني مشروعًا وطنيًا شاملًا لإعادة بناء وعي المجتمع، يهدف إلى ترسيخ قيم المواطنة، والعدالة، والحرية، واحترام التنوع، وربط التعليم والثقافة بالإنتاج والتنمية. وهي ليست حركة حزبية أو نشاطًا مؤقتًا، بل مسار طويل يوازي بناء مؤسسات الدولة، حتى يصبح الانتماء الأول للوطن والدولة، لا للقبيلة أو السلالة أو المذهب.
وفي هذا السياق، وتحديدًا في جانب التعايش، يقول زيجمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة" : إن القضية ليست في الاختيار بين مرجعيات الانتماء، بل بين الانتماء والعيش بلا جذور، بين العيش في مأوى والعيش بلا مأوى، وبين الوجود والعدم. ومن هنا، تختلف استراتيجية الدمج عن استراتيجية الإقصاء، ولا يتحقق أي منهما إلا حين ننتقل من مرحلة "إما أنا... أو أنت" إلى مرحلة "نحن"، وهي المعضلة الحقيقية في رسم الحدود الفاصلة بين "نحن" و"هم".
وهذا يوضح بجلاء حاجتنا الماسة إلى ثورة ثقافية شاملة، تكون أساسًا لبناء يمن حديث، مدني وقوي، وطن لا يملك فيه أحد الحق في إقصاء الآخر، ولا تُصاغ هويته على حساب إلغاء التنوع أو محو الاختلاف.
دروس من تجارب ناجحة
ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك، فالنموذج الأول نجده في مصر، حيث يمكن لغير المصري أن يعيش فيها سنوات طويلة دون أن يعرف من هو المسيحي، ومن هو السني، أو الشيعي، أو الصوفي، فالكل يهتف بصوت واحد: "تحيا مصر". ولدرجة التداخل والاندماج، تجد تشابهًا في الأسماء بين المسلمين والمسيحيين، بما يعكس وحدة النسيج المجتمعي.
ويعود سبب هذا النجاح إلى أن الدولة المصرية المتعاقبة أدركت مبكرًا أن الوحدة الوطنية هي أساس الاستقرار، وأنه بدونها ستتسرب الصراعات إلى كل مفاصل المجتمع. لذلك عملت على حماية هذا النسيج المتماسك، دون تهاون أو تراخٍ، حتى أصبح عامل قوة يحصّن الدولة من الانقسامات، وهو نموذج راسخ يستحق أن يُقتدى به.
أما النموذج الثاني، فنراه في ماليزيا. فالمُطَّلع على مذكرات باني ماليزيا الحديثة، الدكتور مهاتير محمد، سيدرك أن هذا البلد كان في فترة ما ساحة لصراعات ومذابح دموية بين ثلاث قوميات رئيسية:
الملاوي: وهم القومية الأصلية، وكان أغلبهم فقراء ومتخلفين، يعملون في استخراج المطاط والزراعة في الغابات.
الصينيون: أكثر تعليمًا وتنظيمًا، ويمثلون القوة الاقتصادية المسيطرة في البلاد.
الهنود: ويأتون في المرتبة الثالثة، وكان أغلبهم يعملون في الحِرَف والمهن العامة، إضافة إلى مساهمات محدودة في بعض قطاعات الاقتصاد.
عندما بدأت الإصلاحات في ماليزيا بعد الاستقلال، ثم نضجت في عهد مهاتير محمد، اتخذ هو ورفاقه خطوات حاسمة لبناء ماليزيا جديدة، تقوم أولًا وأخيرًا على أساس الوحدة الوطنية، باعتبارها القاعدة التي لا يمكن أن تقوم الدولة بدونها. فقد آمنوا أن النهضة الاقتصادية والسياسية لن تتحقق إلا إذا شعر الجميع بأنهم شركاء متساوون في الوطن، مهما اختلفت أصولهم العرقية أو انتماءاتهم.
كانت أكبر معضلة أمام هذا المشروع هي وضع الملاوي، وهم القومية التي ينتمي إليها مهاتير نفسه، والتي كانت تسيطر على أجهزة الدولة والجيش والأمن، لكنها تفتقر إلى التعليم والمعرفة الحديثة. كان أغلبهم يعملون في مهن بدائية في الغابات والحقول، ويعيشون على هامش الحياة الاقتصادية والسياسية. ولذا كان لا بد من انتشالهم من دائرة الفقر والتخلف، ودفعهم نحو التعليم والانخراط في مسار التحديث.
لم يكن هذا الطريق سهلًا؛ فقد واجه المشروع مقاومة كبيرة، ولم يتحمس له في البداية إلا القلة. لكن مع الجهد المتواصل، نجحوا في إقناع الملاوي بالالتحاق بالمدارس، ثم الجامعات، فارتفع مستوى الوعي تدريجيًا. بعدها، شرعت الحكومة في دمجهم في الاقتصاد، عبر إنشاء شركات صغيرة وتقديم الدعم لها، حتى أصبح بعضهم قادرًا على المنافسة الحقيقية. وبقي جزء منهم في أعمالهم التقليدية، بينما انخرط آخرون في الجيش وأجهزة الدولة، فكانت النتيجة تحويل جماعة ريفية متخلفة إلى جماعة متعلمة ومؤمنة بالنظام والقانون، قادرة على حماية الدولة والمشاركة في بنائها.
أما الصينيون، الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد، فقد تم التعامل معهم كإخوة وشركاء. أُتيح لهم الاستمرار في نشاطهم الاقتصادي، وتم تشجيعهم على توسيع علاقاتهم التجارية مع الصين، لكن تحت سقف الدولة الماليزية ووحدتها. وكذلك كان الحال مع الهنود، حيث شملتهم سياسات الدمج والمساواة، مما عزز الانتماء الوطني لدى الجميع.
وفي غضون سنوات قليلة، أرسلت الحكومة آلاف الطلاب للدراسة في الغرب في مختلف التخصصات، ليعودوا بعد ذلك فيساهموا في تعليم أبناء وطنهم ونقل الخبرات الحديثة. ومع مرور الوقت، توسعت قاعدة الوعي، وبدأ الاندماج الوطني يتحقق تدريجيًا.
خلال ثلاثة عقود فقط، تحولت ماليزيا من بلد يعاني من مدن الصفيح وصراعات الشوارع إلى أحد النمور الآسيوية في الاقتصاد.
فمن القتال بالسواطير في الأزقة والحقول، انتقلت البلاد إلى بناء ناطحات السحاب، وصناعة قوية، ونظام اجتماعي منظم. وعند زيارتك لهذا البلد، تلمس التعايش والعمل الجاد والالتزام بالقانون في كل تفاصيل الحياة.
الجميع هناك ينام باكرًا ليستيقظ في الخامسة صباحًا، في مشهد يشبه المجتمعات الصناعية حول العالم، وفي عطلة نهاية الأسبوع يخرجون مع عائلاتهم للترفيه وقضاء الوقت، بعيدًا عن الفوضى ومضيعة العمر.
(وطبعًا لا قات عندهم، ولا ما يبدد الساعات والجهد بلا طائل).
نحو يمن مدني وديمقراطي
هذه النماذج من التعايش، سواء في مصر أو ماليزيا أو إندونيسيا، ينبغي أن تكون مدرسة ومنطلقًا لبناء يمن الغد؛ يمن مدني، ديمقراطي، وحر. وطن ينهض من خلال ثورة ثقافية شاملة تفتح الطريق لنهضة صناعية حقيقية، ينشغل فيها الناس بالتنافس على البناء والعمل، تحت سقف الوطن، الذي يكون الحضن الأكبر، والحزب الأكبر، والانتماء الأول.
يمن يتجاوز دائرة الحرب والصراعات، بعيدًا عن شهوة السيطرة والموت الذي ظل حاضرًا على قائمتي كرسي العرش، لينطلق في مسار جديد قوامه الحياة والازدهار.