الذاكرة المشتركة كقاعدة للاستقرار نحو شراكة ثقافية راسخة بين اليمن والسعودية

Published:
المشاهدات:
2697
نحو شراكة ثقافية راسخة بين اليمن والسعودية

يحلل المقال دور الثقافة في إعادة بناء العلاقات اليمنية السعودية، مستندًا إلى التاريخ المشترك والروابط الحضارية، ويستعرض كيف يمكن للمشاريع الثقافية أن تواجه آثار الحرب والانقسام، وتمهّد لشراكة راسخة تتجاوز حدود السياسة نحو استقرار إقليمي طويل الأمد.

 

    عبر قرون طويلة، تشكّلت بين اليمن وأقاليم الجزيرة العربية، التي تُشكّل اليوم جزءًا من جغرافية المملكة العربية السعودية، شبكة واسعة من الروابط تتجاوز حدود الخرائط الحديثة، وتستند إلى تاريخ عميق من التبادل والتواصل. ولم تقتصر هذه الروابط على حركة التجارة ومرور القوافل والحجاج، بل شكّلت أيضًا نظامًا حضاريًا متكاملًا أسهم في بناء هوية ثقافية مشتركة.

من ميناء قنا في شبوة تبدأ الرحلة، حيث ترسو السفن القادمة من الهند والصين وشرق آسيا محمّلة بالبضائع النادرة والتوابل. تتجه القوافل شمالًا نحو مارب، التي كانت تمثل المركز الرئيسي لتجميع ما تنتجه اليمن من البخور واللبان والأدوية العشبية، إضافة إلى المستحضرات الطقسية التي استُخدمت في الشعائر والاحتفالات لدى الحضارات القديمة، إلى جانب الأحجار الكريمة والمعادن النادرة. في مارب تُرتّب سلاسل الإمداد، وتُجهَّز القوافل قبل انطلاقها في رحلتها الطويلة عبر نجران وصولًا إلى العلا، التي تشكّل عقدة طبيعية تلتقي عندها الطرق شمالًا.

من هناك يتفرع المسار إلى خطين أساسيين: أحدهما يتجه غربًا نحو مكة ثم يواصل حتى البصرة، والآخر يعبر بادية الشام ليستقر في غزة على ساحل البحر المتوسط. في غزة، تُحمَّل البضائع على السفن المتجهة إلى موانئ أوروبا، بينما تتجه فروع أخرى نحو سيناء ومصر. لقد كان طريق البخور بمثابة شبكة حضارية، لا تنقل السلع فحسب، بل تحمل معها المعرفة والأساطير والقصص، وتسهم في بناء ذاكرة ثقافية مشتركة امتدت من اليمن إلى تخوم المتوسط.

ثم جاءت طرق الحج والتجارة التي انطلقت من صنعاء وعدن والمخا وحضرموت وظفار، فعبرت تهامة ونجران والحجاز وصولًا إلى مكة والمدينة. لم تكن هذه الطرق لنقل السلع فقط، بل حملت معها المعرفة الدينية والفكرية، والحكايات الشعبية، والأشعار، وروابط التواصل الإنساني.

وفي مواسم الحج، كان الحجيج يأتون حاملين هذا المزيج من السلع والمعارف، ويعودون بعلاقات وروابط جديدة. لقد كان الحج فضاءً متكررًا للتلاقي، صنع ذاكرة مشتركة تجمع بين المنافع المادية والطقوس التعبدية.

بهذا المعنى، لم تكن الأسواق عبر التاريخ مجرّد أماكن للبيع والشراء، بل فضاءات للتفاعل الاجتماعي وتبادل الشعر والأدب والحِرف والرؤى. وقد أسهم هذا التداخل المستمر في صياغة ملامح ثقافة ممتدة، تتواصل فيها الأنساب، وتتقارب الفنون الشعبية، وتتداخل اللهجات، وتلتقي المعتقدات والعادات في نسيج ثقافي واجتماعي وحضاري واحد.

الانقلاب الحوثي ومحاولة قطع الامتداد الحضاري

جاء انقلاب الحوثي كمحاولة لقطع هذا الامتداد التاريخي والحضاري، وإعادة صياغة العلاقة بين البلدين على أسس من الشك والعداء. لقد خلق الانقلاب لغة جديدة مشحونة بالانفعالات، وأنتج مسافة نفسية تتجاوز الحدود الجغرافية، وجعل العلاقة في بعض المراحل تبدو وكأنها مواجهة بين طرفين منفصلين، لا بين شعبين يشتركان في التاريخ والوجدان.

خلال فترة الانقلاب الطائفي المدعوم من إيران، ضخت وسائل إعلام طهران وأذرعها في المنطقة، وفي مقدمتها ذراعها في صنعاء، كمًا هائلًا من النصوص والصور والزوامل والخطب والمواد التحريضية التي استهدفت اليمن والسعودية معًا. لم تكن هذه المواد مجرد دعاية آنية، بل مشروعًا ممنهجًا لزرع الشك والكراهية في الوعي الجمعي، وخلق تصورات مشوّهة عن العلاقة بين الشعبين. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الرسائل إلى ذاكرة سمعية وبصرية راسخة في عقول الأجيال، تُغذّي الانقسام وتؤجج العداء.

إن محو هذا الأثر العميق لا يمكن أن يتحقق عبر القرارات السياسية أو الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية وحدها، فهذه الأدوات مهما بلغت قوتها، تظل عاجزة عن معالجة التشوهات الراسخة في الوعي. وحده العمل الثقافي، بمشاريعه المستمرة ورؤيته الإنسانية، قادر على إعادة تشكيل الصور الذهنية، ومحو ما زرعته الطائفية من شوائب فكرية ورمزية، ليعيد للأجيال القادمة صورة نقية عن التاريخ المشترك، ويؤسس لعلاقة طبيعية تقوم على الاحترام والشراكة، وتستعيد البعد الحضاري الذي حاول الحوثيون وحلفاؤهم طمسه.

الثقافة في التجارب العالمية: من العداء إلى الاتحاد

حين نتأمل تجارب العالم، نجد أن العلاقات الثقافية كانت في كثير من الأحيان المدخل الأهم لتجاوز الصراعات وبناء الثقة. ففي أوروبا، بعد حربين عالميتين دمّرتا القارة، كان من المستحيل تصور اتحاد سياسي أو اقتصادي بين فرنسا وألمانيا لولا أن البداية جاءت عبر مشروع ثقافي وتعليمي: تبادل الطلاب، ترميم المعالم المشتركة، وإطلاق برامج أعادت بناء صورة "الأوروبي" في مقابل صورة "العدو". لقد صنعت الثقافة لغة جديدة للتفاهم، وفتحت الباب للتعاون الاقتصادي، ثم السياسي، وصولًا إلى الاتحاد الأوروبي الذي نراه اليوم.

وكذلك في شرق آسيا، ورغم جراح الاستعمار والحروب، استطاعت اليابان وكوريا الجنوبية أن تبنيا علاقة اقتصادية قوية انطلقت من التبادلات الثقافية: الموسيقى، السينما، التعليم، وحتى المطبخ. مع مرور الوقت، بات الطرفان ينظران إلى بعضهما بوصفهما شريكين في الإبداع والحداثة قبل أن يكونا خصومًا في السياسة. هذه النماذج تؤكد أن الثقافة لا تعالج الجروح فقط، بل تمهّد الطريق لمشاريع كبرى تتجاوز الخلافات المحدثة وتؤسس لشراكات مستقبلية.

خصوصية العلاقة اليمنية السعودية

تُظهر هذه النماذج العالمية أن الثقافة ليست مجرد تبادل للكتب أو إقامة مهرجانات، بل هي عملية إعادة تشكيل للبنية العاطفية والمعرفية التي تحكم علاقة الشعوب. وفي حالة اليمن والسعودية، هناك فرصة فريدة، لأن الهوة التي خلقها انقلاب الحوثي، رغم عمقها، لم تصل إلى حد تدمير المشترك الثقافي.

فما زالت الروابط الأساسية متينة، بدءًا من اللغة العربية التي يوحّدها الإطار الفصيح وتتنوّع في لهجاتها، مرورًا بالدين الذي يشكل مرجعية روحية واحدة، وصولًا إلى العادات في الطعام والملبس والفنون الشعبية، وحتى الروابط الأسرية الممتدة عبر الحدود. هذه العناصر تشكل أرضية صلبة لوحدة ثقافية يمكن أن تُبنى عليها علاقات مستقبلية أكثر توازنًا واستقرارًا، إذا أُحسن استثمارها ضمن رؤية شاملة تتجاوز اللحظة السياسية.

 

خارطة طريق للعمل الثقافي

العمل الثقافي المطلوب بين اليمن والسعودية لا يقوم على الدعاية ولا على الخطابات العاطفية، بل على برامج عميقة تعيد صياغة العلاقة اليومية بين الناس. يمكن أن يبدأ ذلك بمشاريع ترميم مشتركة للمواقع الأثرية التي توثق التاريخ المتداخل بين البلدين، مثل طريق البخور، وطرق الحج القديمة، والمدن التي شكّلت محطات للتجار والحجاج عبر القرون. هذه المبادرات ليست رمزية فقط، بل تصنع سردية جديدة تعيد وصل الحاضر بالماضي.

فعندما يرى المواطن اليمني والسعودي أن هذه الأرض كانت دائمًا معبرًا للتواصل لا حاجزًا للفصل، يدرك أن الحدود السياسية مؤقتة، بينما الجذور الثقافية ثابتة وعميقة. وهكذا يصبح التراث أداة لفهم الذات المشتركة وبناء مستقبل مختلف.

إلى جانب التراث المادي، هناك تراث لا مادي يشكّل روح العلاقة بين اليمن والسعودية: الأغاني، الحكايات الشعبية، الأمثال، المأكولات، الأزياء، وغيرها من الرموز التي يمكن استحضارها في فعاليات ومهرجانات مشتركة، لا بوصفها استعراضًا فولكلوريًا، بل كجسر لإعادة تعريف الذات المشتركة. إن إقامة مهرجان يجمع القهوة اليمنية والتمر والعنب، حيث يلتقي المنتج الثقافي بالاقتصادي في مساحة واحدة، يبعث برسالة واضحة تقول: نحن نكمل بعضنا بعضًا، ولدينا هوية حضارية وثقافية واحدة.

كما يمكن إطلاق برامج تبادل شبابية وأكاديمية وسياحية، يزور من خلالها الطلبة والباحثون والأكاديميون والفنانون كلا البلدين، ليعايشوا الواقع عن قرب، ويروا بأنفسهم أن الخلافات التي غذاها انقلاب الحوثي سطحية وعابرة مقارنةً بالتشابهات العميقة التي تجمعهم. هذه المبادرات قادرة على بناء جسور ثقة حقيقية، ومنح الجيل الجديد فرصة لتصحيح الصور الذهنية التي شُوّهت بفعل الصراعات والخطابات العدائية التي روجها ذراع إيران في صنعاء، لتصبح الثقافة مدخلًا عمليًا لترميم الوعي وإعادة بناء العلاقة بين الشعبين على أسس راسخة ومستقبل مشترك.

التحول الثقافي فرصة لإعادة صياغة توجهات المنطقة

يمثل التحول الثقافي الذي تشهده المملكة اليوم عاملًا حاسمًا في إعادة تشكيل العلاقة مع اليمن، بل ومع مجمل دول الجزيرة العربية والشام والعراق. فهذا التحول لا يقتصر على تحديث الخطاب أو إجراء تغييرات سطحية في بعض الأنشطة، بل هو عملية شاملة لإعادة تعريف الهوية المجتمعية والثقافية والسلوكية. إنه ينقل الدولة من نموذج تقليدي يقوم على الولاءات القديمة والمرجعيات الضيقة، إلى فضاء حديث يرتكز على القيم المدنية والإنسانية، ويضع المواطنة والعمل الجماعي في صدارة الأولويات.

هذا التحول يشكّل فرصة استراتيجية ليمن ما بعد الانقلاب والحرب، إذ يتيح المجال لإحداث تغييرات جذرية في المفاهيم الفكرية والثقافية، ويساعد على بناء مجتمع جديد يتجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية. فكما نجحت المملكة في إعادة صياغة خطابها الديني والوعظي والفكري، وأعادت هيكلة مؤسساتها الثقافية بما يتناسب مع متطلبات العصر، يمكن الاستفادة من هذه التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل اليمن ومحيط المملكة بأسره.

نجاح المملكة في هذا المسار لا يكتمل ما لم يمتد أثره إلى محيطها الإقليمي، لأن التغيير الثقافي إذا ظل محصورًا في الداخل السعودي سيظل معرضًا لارتدادات وموجات معاكسة تأتي من الخارج. لذلك، فإن دعم مشاريع ثقافية وفكرية في اليمن ودول الجوار، وبناء شراكات حقيقية في مجالات التعليم والإعلام والفنون، يعد استثمارًا استراتيجيًا في استقرار المنطقة ككل، ويضمن استمرارية هذا التحول كحركة عابرة للحدود، تُحصّن المجتمعات ضد مشاريع التطرف والطائفية، وتفتح آفاقًا جديدة للتعاون والوحدة الثقافية.

الثقافة اليوم لم تعد وسيلة للحفاظ على الماضي فحسب، بل قوة محركة للتغيير تربط المجتمع بالعالم عبر الفنون والمعرفة والابتكار. ومع هذا التحول، غدت مؤسسات الدولة حاضنات لوعي جديد، تتراجع فيه الانقسامات القبلية والمناطقية لصالح مفهوم المواطنة، ويتقدم فيه القانون والعمل الجماعي على الخطاب الرمزي.

هذا المسار يهيئ لبناء علاقة طبيعية مع اليمن، تقوم على الشراكة الثقافية والاحترام المتبادل، حيث يلتقي الشعبان في فضاءات مشتركة بوصفهما امتدادًا لجذور حضارية واحدة، ومشروعًا لمستقبل مشترك يتجاوز حدود السياسة وصراعاتها.

الثقافة كحاضنة للاستقرار السياسي

العلاقات الثقافية ليست بديلًا عن السياسة، لكنها الإطار الذي تتحرك داخله. فحين تكون الثقافة قوية ومتجذرة، تصبح السياسة أكثر مرونة، لأنها تنطلق من فضاء من الثقة والاحترام المتبادل. أما حين تغيب الثقافة، فإن أي علاقات سياسية تظل هشة، لأنها تُبنى على رمال متحركة.

بناء علاقة ثقافية متينة بين اليمن والسعودية يعني أن مستقبل العلاقة لن تحدده قرارات وقتية، بل إرادة عميقة ووجدانية تستند إلى الذاكرة المشتركة التي يتقاسمها الشعبان. هذه العلاقة لا تلغي الاختلافات، بل تجعلها مصدر ثراء وتنوع، تمامًا كما هو الحال داخل المملكة نفسها، حيث تلتقي أقاليم متعددة تحت هوية واحدة، دون أن تفقد كل منطقة خصوصيتها أو مساهمتها في الصورة الكاملة.

نحو أفق جديد للوحدة والشراكة

العلاقات بين اليمن والسعودية أعمق من أن تختزل في حدود سياسية أو موازين قوى متقلبة، فهي امتداد لرقعة حضارية واحدة تتقاطع فيها اللغة والأثنية والدين والعادات ومسارات التجارة والحج والعلوم. نحن شعب واحد في بلدين، تجمعنا هوية وذاكرة لا تفصلهما الحدود ولا تفرقهما السياسات.

حاول الانقلاب في اليمن أن يزرع الشك ويصوّر العلاقة كصراع وندية، لكن الثقافة، بما تحمله من قيم وفنون وذاكرة جمعية، تظل أقوى من التشويه، فهي التي تصوغ وجدان الناس وتربطهم في حياتهم اليومية، من الأسواق والحرف إلى الفنون الشعبية واللغة، لتؤكد أن هذه الوحدة أعمق من تبدّل الأنظمة وتقلب المصالح.

مواجهة هذا التشويه لا تتحقق بالسياسة وحدها ولا بالاتفاقات المؤقتة، بل عبر عمل ثقافي عميق يعيد صياغة الوعي المشترك ويجعل العلاقات طبيعية وعفوية كما كانت. فالثقافة ليست تراثًا محفوظًا أو احتفالات رمزية، بل نظام حيّ يوحّد القيم ويكسر الحواجز التي تفرضها بعض السياسات المرحلية. وحين تُبنى العلاقات على هذا الأساس، يصبح الخلاف السياسي سحابة عابرة لا تمس الجوهر.

في عالم اليوم، حيث تتسع الانقسامات وتتعاظم النزاعات، يصبح استدعاء هذا المشترك الثقافي نوعًا من المقاومة للتمزق، ومشروعًا سياسيًا بوسائل ناعمة، يعيد صياغة العلاقة بين الشعبين على أساس من الشراكة والاحترام، ويمنحها أفقًا يتجاوز اللحظة نحو مستقبل أكثر توازنًا واستقرارًا.

إذا كان التوحيد السياسي قد تحقق في المملكة عام 1932 بجهد السيف والإدارة، فإن التوحيد الثقافي بين اليمن والسعودية يمكن أن يتحقق اليوم بجهد العقل والخيال. الثقافة هي الجسر الذي يردم الهوة، ويربط حاضر البلدين بمستقبل يتجاوز مخلفات الماضي، ويصنع أفقًا جديدًا للوحدة والشراكة. فهي اللغة التي لا يستطيع الانقلاب محوها، ولا الحرب تدميرها، وهي الطريق الأعمق لبناء علاقة مستدامة يحددها الوجدان الشعبي، لا تقلبات السياسة ولا مصالح اللحظة.

* أكاديمي وكاتب صحفي، ورئيس مؤسسة يمنيون الثقافية

expanded image