المنافي مختبرات الأرواح وإعادة الخلق فيض المنفى حين يُولد الإنسان من غيابه

Published:
المشاهدات:
2753
فيض المنفى حين يُولد الإنسان من غيابه

رحلة في معنى النفي والمنفى: من إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام  إلى لينين ومانديلا وابن عربي، كيف يتحول المنفى إلى فضاء للتحرر وإعادة الخلق

     أنت يا من نُفيت عن دارك، يا أخي في المنفى، لا تظنن أن الطريق قد انقطع. إنما تُساق إلى سعة لم تدركها بعد، كما ساقوا إبراهيم من بابل ليكمل رسالة التوحيد، ويوسف إلى الجبّ ليملك، وموسى إلى مدين ليعود برسالة الخلاص ويعبر البحر، ومحمدًا إلى المدينة ليعود فاتحًا ويضع رسالته التي فتحت العالم وما زالت، وعيسى الذي جاب الأرض بلا مأوى إلا قلبه ليغدو رمزًا للرحمة والنجاة، والحلاج إلى مشنقته ليخلّد صرخته في عشق الحق، وابن عربي بين الأندلس والشام ليصوغ أوسع رؤى الفيض والوحدة، ولينين في قطاره المغلق ليقلب وجه التاريخ، ومانديلا في زنزانته ليكسر السلاسل، وماركس في منفاه ليكتب "رأس المال"، وجيفارا بين الغابات ليحوّل المنفى إلى جبهة، وروسو في عزلته ليصوغ "العقد الاجتماعي" ويعيد تعريف الحرية. فكل قلب يُساق إلى مقامه ليعرف نفسه، وفي كل منفى يُمحى وجهك القديم ليولد وجهك الآخر، وفي كل محوٍ كتابة جديدة بمداد لا يُرى.

قال ابن الفارض:
"
قلبي يُحدثني بأنك متلفي،
روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ."
كأن كل منفي يرددها دون أن يدري؛ قلبه يحدثه بوطنه البعيد، بروحه التي تُساق إليه في الحلم والدعاء. وفي السياق تقول رابعة العدوية:
"
أحبك حبّين: حب الهوى،
وحبًا لأنك أهل لذاكا."

إنه حب يشبه حال المنفى: وجه محسوس يبتعد، ووجه آخر يتسع حتى يملأ الروح. ويقول ابن عربي: "الموت حياة، والحياة موت، كلاهما انتقال من حال إلى حال، والحق واحد لا يزول". فالمنفى موت ظاهر للوطن، وبقاء باطن له. كل نفس يعيشه المنفي هو خلق جديد، فيض يعيد صياغته، كأن الوجود نفسه ينحلّ ويتجدد، كما قال أيضًا: "الوجود يتجدد بالأنفاس، وما من نفس إلا وفيه خلق جديد."

في الفيزياء الكمومية، الواقع ليس ثابتًا، بل شبكة من الاحتمالات تتجسد عند المراقبة. يقول هايزنبرغ: "الواقع ليس مادة صلبة، بل احتمالات تنبثق باستمرار." وهذا يقارب رؤية ابن عربي للفيض: العالم يتجدد بلحظة نَفَس، كما تتغير الحالات الكمومية في كل "قفزة". أما آينشتاين فقد وسّع هذا الأفق بفلسفة النسبية حين قال: "الزمان والمكان ليسا منفصلين، بل نسيج واحد يتشكل مع الوجود." وهنا النسبية ربطت بين الزمان والمكان كنسيج واحد، بحيث لا معنى للمكان دون زمنه، ولا للزمن دون أحداثه. في المنفى يظهر هذا بوضوح: الوطن يتحول إلى إطار زمني داخلي، لا إلى مكان حاضر، فيعيش المنفي وطنه كإحداثيات وجدانية لا كخرائط سياسية.

ابن تيمية، وهو في حبسه، قال: "ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة". وكأن كلماته جعلت من حبسه فضاءً داخليًا لا تحده جدران. عبد الرحمن الكواكبي، وهو في منفاه، كتب: "إن الحرية هي شجرة الخلد، وسقياها قطرات الدم المسفوح، والاستبداد ليلها المدلهم وبدرها مفقود". مانديلا بعد سنوات سجنه الطويلة قال: "إن السجن يُعلّم الصبر والمثابرة، لكنه لا يستطيع أن يكسر إرادة الحرية". وغاندي قال: "يمكنكم تقييد جسدي، وضربه، وحتى قتله، لكنكم لن تستطيعوا أن تلمسوا حريتي". هؤلاء جميعًا لم يروا المنفى قيدًا، بل مختبرًا للمعنى وامتحانًا للإرادة، تحولت فيه قيودهم إلى أبواب.

النبي محمد ﷺ خرج من مكة إلى المدينة، هاجر من جوار "عدنان" إلى منزله الذي أنزله الله إياه في قلب "قحطان"، ليعيد تعريف الوطن. قال وهو يلتفت نحو مكة: "والله إنك لأحب البلاد إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت." كانت الهجرة النبوية منفى قصيرًا كشف أن العودة لا تمر إلا بعبور أشد، فكان الفتح ضرورة للعبور نحو مستقبل لا يشبه قريش ولا زمنها المنتهي إلى الأبد.

النفي والمنفى ليسا دومًا عبورًا للحدود، فقد تكون منفيا وأنت في قلب بلدك، بين أهلك وفي بيتك، كما قال البردوني: "يمنيون في المنفى ومنفيون في اليمن". هذا المنفى الداخلي هو الأقسى، لأنه يسلبك انتماءك في مكانك، قبل أن يسلبك المكان نفسه. المنفى ليس فقط تلك المسافة الممتدة بينك وبين أرضك، بل هو أيضًا شعور الاغتراب بين جدرانك، أن تعيش بين أبناء جلدتك وأنت لا تجد مكانك فيهم. فقد تكون بعيدًا آلاف الأميال عن وطنك، فتشعر أنك أقرب إليه من أي وقت مضى، وقد تكون فيه جسدًا، لكنك مطرود من روحه، لا يربطك به إلا اسم على هوية أو حنين مشلول.

وهكذا، يتحول المنفى إلى حالة نسبية؛ القرب قد يكون نفيًا حين يغلق عليك الوطن بابه، والمنفى قد يصبح قربًا حين يحررك من الزحام لتراه بصفاء. هنا، المنفى ليس دائمًا فراقًا، بل أحيانًا عودة جديدة بغير قدمين، أن تنقل الوطن إلى داخلك حين يغيب من حولك. وربما لهذا تبدو بعض المنافي القسرية، بل وحتى الاختيارية منها، أكثر صدقًا في صلتها بالوطن، إذ تُجبرك أن تحمله في قلبك لا في جغرافيتك، وأن تراه بعيون الداخل لا بزحام الخارج.

في هذه الازدواجية يتجلى المعنى الصوفي: أن النفي قد يكون قربًا، والقرب قد يكون نفيًا، كما في قول ابن عربي عن "الحق الذي يتجلى في كل آن جديد"؛ فكل بعدٍ يولد رؤية، وكل مسافة تفتح وعيًا، حتى تصير المنافي امتحانًا لا للمكان بل لمدى عمق الجذور في القلب. إنها رحلة لا تُقاس بخطوط الطيران، بل بما تزرعه في الداخل من وطن لا تُدركه الخرائط.

الشتات اليمني اليوم لا يُفهم إلا من قلب المنفى. إنه تحوّل جماعي من الوطن إلى ذاكرة، ومن الأرض إلى رمزية، حيث يصبح الحنين لغة وهوية. كما في الشتات اليمني المتكرر الذي حدث مرات كثيرة في بلد في حقيقتها طاردة لسكانها، والذي أعاد كل مرة تعريف الهوية عبر النص والرمز قبل أن يعود إلى الأرض. وهذا يقارب ما عاشته المنافي المعاصرة: الانتقال من الانتماء الترابي إلى الانتماء الثقافي والفكري، حيث يصبح الوطن شبكة من الذكريات واللغة والمصير، لا جغرافيا فقط. فالشتات منفى جماعي يولّد هويات عابرة للحدود، ويعيد تعريف الانتماء باعتباره فعلًا رمزيًا يتجاوز الأرض.

وكما في المنفى الفردي، تتجلى أيضًا تجارب الفكر التي وُلدت في العزلات الكبرى، ومن أبرزها تجربة سبينوزا. سبينوزا عاش منفيًا من مجتمعه الديني بعد أن طُرد من الطائفة اليهودية بقرار الحرم الشهير، لكنه جعل من عزله منطلقًا لصياغة واحدة من أعمق رؤى الحرية والعقل في العصر الحديث. في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" وضع أسس التفكير العلماني، ففصل بين سلطة الدولة والسلطة الدينية، واعتبر أن الدولة هي الضامن الوحيد لحرية المعتقد والتعبير، وأن الدين شأن شخصي أخلاقي لا ينبغي أن يتحول إلى قوة سياسية. دعا إلى حرية التفلسف كحق طبيعي، وجعل من العقل سبيلًا لفهم الضرورة التي تحكم الكون، قائلًا إن الحرية الحقيقية ليست في كسر القيود الخارجية بل في إدراك قوانين الطبيعة والعيش وفقها.

كان يرى أن الإنسان لا يولد حرًا بالمعنى المطلق، بل يصبح حرًا حين يعرف موقعه في النظام الكوني ويقبل الضرورة بوصفها حكمة الطبيعة، وفي ذلك يتقاطع مع نظرة صوفية عميقة؛ فالمنفى الذي عاشه لم يكن فقدًا، بل كشفًا للوعي: إذ في وحدته تحرر من قيود الطائفة، وكتب أن الدولة العقلانية هي التي تحمي الأفراد لا لكونها سلطة فوقهم، بل لأنها تتيح لهم أن يفكروا ويؤمنوا بلا خوف.

ومن خلال هذه الرؤية، كان المنفى عند سبينوزا لحظة انقطاع ظاهر اتسع في باطنه إلى كونية جديدة: فقد جرّد الدين من احتكار السلطة، وردّ السياسة إلى العقل، وجعل الإنسان، كما يقول في عبارته الشهيرة: "لا يبكي ولا يسخر ولا يلعن، بل يفهم". بهذا الفهم، تصبح عزلته نموذجًا لمنفى يفتح باب التفكير الكوني، حيث تنطفئ سلطة الأرض، ويُترك الفرد أمام المعنى الأوسع للوجود، مثلما يصفه ابن عربي حين يرى أن "الحق يتجلى في كل آن جديد."

يقول ابن عربي، وهو الذي حكموا بكفره، ثم نُفي من دنياهم إلى أفقه الخاص: "الحق لا يتكرر في صورة، بل يتجلى في كل آن جديد." وهذا يشبه الكون في فيزياء الكم والنسبية: لا صورة ثابتة، بل تدفق دائم. المنفى حالة كمومية للإنسان، يتحرك بين صور لا نهائية، بين وطن محسوس ووطن متخيل، بين بعد ظاهر وقرب باطني.

المنفى ليس خواءً، بل صلاة بلا صوت: كل دمعة دعاء، كل ذكرى تسبيح، كل حلم بالعودة ركعة مؤجلة. وكأن المنفي يردد مع ابن الفارض:
"
زدني بفرط الحب فيك تحيرًا،
وارحم حشى بلظى هواك تسعّرًا."

كما في الكم، حيث "الواقع احتمالات تتجلى"، وكما في النسبية، حيث "المكان يتداخل بالزمن"، يرى ابن عربي أن المنفى نفسه فيض يتجدد بلا نهاية: "كل موت صورة، يولد حياة صورة أخرى." لذا كل نفي يخلق وعيًا جديدًا بالوطن، وكل بعد يفتح قربًا أوسع. المنفى مختبر كوني يعيد خلق الإنسان على إيقاع الفيض الإلهي، بين موت وبعث، بين أنفاس تتجدد، وصور لا تتكرر.

expanded image