طلائع الفجر تلوح في الأفق
طارق السكري
لقد بدأت طلائع الفجر تلوح في الأفق وتنتشر في الأرواح .. وشرع الأذان زكياً يموج في الفضاء طروباً يعتنق الأنداء وعبق الغمائم وتسابيح الملائكة ثم إذا به يهبط كالنسيم على قلوب المؤمنين فيغسلها من أنكادها ويشفيها مما ألم بها.
وقفتُ وراء الشرفة أتأمل كتأمل الرسام أمام لوحة بديعة .كان أطفال في المعهد يمرحون في المصلَّى ويكبّرون تكبيرات العيد . صعدت بنظري صوب الجبال فإذا هي ساكنة تسبح في جلال مهيب . امتلأت شرايين قلبي روعة وجمالا .
الله أكبر الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله
الله أكبر الله أكبر . ولله الحمد
جعلت أتأمل في هذه الكلمات . والأطفال يهتفون . في تلك الساعة من الفجر . أشعر في أعماقي بقوة هديرها وفي مسامعي بروعة موسيقاها وجرسها ..إذا لم تكن الألفاظ إلا أوعية للمعاني ورموزا تحمل وراءها دلالات ومقاصد فما سر قوة تلك الكلمات ؟فقام في خيالي منظر رهيب . أبرهة يعد العدة لغزو الكعبة . لكن حابساً يحبسه قرب مكة . وإذا بأسراب من الطير الأبابيل تغطي الغمام . تحمل في مخالبها ومناقيرها حجارة متوهجة . تحصب بها جيش الفيلة فتتركهم كبقايا الزرع المأكول .
الله أكبر يارب القدرة المتناهية .
ثم تأملت أخرى وأنا أهمس : “الله أكبر كبيرا” .. فإذا أعظم أجرام الكون بين يدي الله راجفة خشية أن تزول : ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) .
قلت في نفسي : من أنا إزاء هذا المدى الفسيح المترامي ؟ ومن أكون وما حجمي ؟ فلماذا ينتابني الحزن على لعاعةٍ من لعاعات الدنيا فاتت إلى غيري ؟ أو يعتريني الخوف من غد مجهول ليست بيدي رياحه ولا تصاريفه ؟إلا إن الأمر كله لله .
في غزوة من الغزوات .. التي نقض فيها يهود بني قريظة العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحالفوا مع قريش وتواطئوا على استباحة الحرمات وسفك الدماء وانتهاك الأعراض فيما يعرف بغزوة الأحزاب . وما إن حطت جيوش البغي رحالها حتى صدمتهم الريح بزمهريرها الشديد فولوا مدبرين . لقد سجل الله ذلك الموقف وما تخلله مما يعتلج في الصدور من فزع . فسبحان الله ! ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا . إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوبُ الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) .إلا إن الأمر كله لله . صدق وعده لرسوله بالنصر والتمكين وهزم الأحزابَ وحده .قلت لنفسي : لقد كان الأطفال يرددون هذا الهتاف ! هل كانوا يدركون معناه ؟ بل هل كنت أعلم ما وراءه لولا نفحات هتافهم ؟ بل هي تأملات لحظة عابرة فلا يحصي عدد ما وراء هذه الكلمات إلا الله .
الله أكبر الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله
الله أكبر الله أكبر . ولله الحمد
الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
إنها طاقة مشعة بالوحدانية .. تمتد من لدن قول إبراهيم عليه السلام : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) إلى أن يرفع إبراهيم وإسماعيل بعد أن شبّ القواعد من البيت .. إلى أن يؤمر إبراهيم بالأذان في الحج : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) إلى رؤيا إبراهيم : ( يابنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ؟ قال يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم .قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين .. إن هذا لهو البلاء المبين .وفديناه بذبح عظيم ) . إلى جبريل يجلس على كرسي في الأفق بستمائة جناح يغطي الشمس ورسول الله على باب الغار وهو يقول له : يا محمد . أنا جبريل وإنك رسول الله .
إلى فتح مكة والصحابة يسوقون الهدي إلى بيت الله الحرام ورسول الله مطأطئ رأسه تواضعا لله والجيش يهلل وشعاب مكة ترجِّع : الله أكبر الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله .
الله أكبر الله أكبر . ولله الحمد
الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
لا إله إلا الله وحده . صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .
فإذا أعداء الأمس يحتشدون إلى رسول الله والسيوف تزأر في الأغماد فتنفرج من شفتي رسول الله كلمة الخلاص : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
تاريخ موار بالأحداث .. الغلبة حينا للموحدين وحينا للمشركين . والله رقيب وحسيب وعلى كل شيء شهيد .
كلمات موصولة بالتاريخ الناصع .. التاريخ الذي صنعته أيادي الأنبياء البيضاء فبذرت العدالة وانتصرت للحرية وثارت على الظلم وسحقت الوثنية ودمرت الخرافة وأغطشت ليل الكهنوت بفجر التوحيد وضحاه .. وبربيع الحق ومن والاه. طلائع التقدم ، ورجالات التنوير الذين صنعهم الله على عينه واصطفاهم ليكونوا أدلة على جمال ذاته ورحمته وجمال كلامه ورسالته .إنها كلمات لو هبط بعض منها على الأرض اليوم .. لما اغتصبت أرض ولما شرد شعب ولما تعرضت حرائر لمهانة ولعمّ الخير كما تعم مياه الغمائم الوديان .كلمات تطرد الحزن وتعيد الأمل وتعزز الثقة بالنصر لكل مقاوم على جبهةٍ لتحرير الأرض وهي تقوم كعمود الفجر في صدر كل حر أبيّ غير خانع ولا يائس .